للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولذلك تتضمن بعض مقطوعات فى الغزل، ومن أروعها قوله (١):

أنكرت إلا سقام طرف ... وأىّ سيف بلا ذباب (٢)

إن أنا لا حظته توارى ... من دمعة العين فى حجاب

أبصرته جدولا وورقا ... من دمع عينىّ وانتحابى (٣)

وتشبيه العين بالسيف القاتل تشبيه متداول فى الشعر العربى من قديم، ولكن ترقرق الدموع فى عينيه بالبيت الثانى حتى لتصبح حجابا بينه وبين رؤية صاحبته تشبيه طريف لم يسبق إليه. أما تشبيه الدموع بالجدول وتشبيه انتحابه بهدير الحمام فكلاهما متداول قديما، وإن كان قد أخرجهما إخراجا طريفا. والغزل فى الأندلس يتشابك بقوة مع الغزل العربى الطاهر العفيف، ومن أهم ما يلاحظ فيه الارتباط الوثيق بالعناصر البدوية القديمة على نحو ما يلقانا فى غزلية لمتفلسف الأندلس أبى بكر محمد بن طفيل الذى تحدثنا عنه فى نشاطها الفلسفى، إذ يستهلها على هذا النمط (٤):

ألمّت وقد نام الرقيب وهوّما ... وأسرت إلى وادى العقيق من الحمى (٥)

وجرّت على ترب المحصّب ذيلها ... فما زال ذاك التّرب نهبا مقسّما (٦)

تناقله أيدى التّجار لطيمة ... ويحمله الدارىّ أيّان يمّما (٧)

ولما رأت أن لا ظلام يجنّها ... وأن سراها فيه لن يتكتّما (٨)

أزاحت غمام العصب عن حرّ وجهها ... فأبدت شعاعا يرجع الصّبح مظلما (٩)

فكان تجلّيها حجاب جمالها ... كشمس الضّحى يعشى بها الطّرف ساهما

ولو أننا لم نعرف صاحب هذه الأبيات وأنه أندلسى لظنناه أمويا من شعراء نجد العذريين أو عباسيا ممن كانوا يتمثلون العناصر البدوية مثل أبى تمام متخذين منها رموزا لإسباغ العذرية والعفاف الملتاع على غزلهم، وها هو الشاعر الأندلسى بدوره يتخذ تلك العناصر


(١) مغرب ١/ ٣٤٥.
(٢) ذباب السيف: حده القاطع.
(٣) ورق جمع أورق: ما لونه رمادى من الحمام.
(٤) مغرب ٢/ ٨٥ والمعجب ص ٣١٦ وتحفة القادم رقم ٤٣.
(٥) هوم: مال رأسه فى النعاس. أسرت: سارت ليلا. وادى العقيق: مواضع كثيرة بالمدينة وبالطائف ونجد.
(٦) المحصب: موضع رمى الجمار بمنى.
(٧) اللطيمة: وعاء المسك. الدارى: العطار نسبة إلى دارين: فرضة أو مرفأ كان يحمل إليه قديما المسك من الهند. يمّم: قصد.
(٨) يجنها: يسترها، سراها: سيرها ليلا.
(٩) العصب: العصابة على الرأس وطرف الوجه. حر ظاهر.

<<  <  ج: ص:  >  >>