وهؤلاء الذين يقصدهم الدكتور " أنيس " هم الذين تأثروا في أحكامهم التقعيدية والتعليمية معاً بخصائص الحكم الفلسفي، وبصفة خاصة بما يميز هذا الحكم من طرد الأحكام الممتدة عن بعض الظواهر إلى ظواهر أخرى، اكتفاء" بنوع من الاتساق النظري بينها دون الإعتماد على ركائز يقينية، وإنما تشيده التصورات الذهنية وحدها، بصرف النظر عن الوجود الواقعي لها، ومن ثم صح عند ابن جني أن يجعل من بين أقسام الكلام من حيث الاطراد والشذوذ: " ما كان مطرداً في السماع شاذاً في القياس، وما كان مطرداً في القياس شاذاً في السماع " دون أن يحس بتناقض هذا التفاوت في الحكم بين السماع والقياس، إذ لم يعد المسموع والمروي ذا قيمة مؤثرة في الفكر النحوي بعد أن أغنى عنهما الإدراك العقلي للنصوص اللغوية، ومن هنا فإن ما يبدو عجيباً من تناقض الأحكام مع الواقع اللغوي يبدو مبرراً منطقياً مع منهج البحث النحوي في هذه المرحلة (١) .
يتضح لنا إذن أن الصراع كان ناشباً بين المجددين والمحافظين، فينتصر المجددون حين تبرق بارقة من الحرية في القول، كتلك التي كانت على يد المعتزلة، وتخبو جذوتهم حين تشيع روح المحافظة كتلك التي كانت أيام المتوكل الذي نكل بالمعتزلة ومن على شاكلتهم، فقد كان لحرية الرأي في الأمور الفلسفية والاجتماعية صدى في البحوث اللغوية أيضاً (٢) .