للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولم يرث إلا صديقًا أو زعيمًا وطنيًّا، وقد علمت مبلغ وطنيته، وصدق ولائه لفكرة الوطن والاستقلال، وعداوته للمحتل الغاصب، فإذا مات الزعيم فقد فقدت الأمة قائدًا محنكًا وهي في أمس الحاجة إليه وإذا رثى أعطاك صورة واضحة عن المرثي، ولا يحفل بهذه الحكم المبتذلة، والمواعظ المتصنعة؛ وذلك لأنه يقول عن عقيدة وفكرة، ومرعفة تامة بخلال من يرثي وأعماله ومنزلته. خذ مثلًا رثاءه لسعد زغلول:

نعى الناعي بجنح الليل سعدا ... فيا لله ما فعل الصباح

جموع بالعراء مدلهات ... تموج بها على السعة البراح

وأفئدة خوافق داميات ... تفري في جوانبها الجراح١

وأجفان أجف الدمع فيها ... جوى بالضلوع له التياح٢

وأبصار سكرن فلا انطباق ... ترف به العداة ولا انفتاح

وليل بالأسى والخطب ساج ... ويوم من جوى الأحشاء راح٣

فلا تلم النفوس جرين دمعًا ... وراء الظاعنين غداة راحوا

أتلحا أمة ثكلت أباها ... أضلهم الحجا فبكوا وناحوا

إذا كتموا الأسى جلدًا ألحت ... عليهم لوعة البلوى فناحوا

أن لولاه وما عرفوا حياة ... ولا عرفانًا للاستقلال راحو٤

ثم يروح يصور لك سعدًا ومنزلته، وما صنعه لقومه تصويرًا بديعًا قويًّا، مشوبًا بعاطفة تضطرم بين جوانحه أسى ولوعة لفقد هذا الزعيم، وكل مراثيه عامرة بهذه العاطفة، مما يدل على أنه لم يكن يرثي مجاملة أو نفاقًا، وإنما كان يرثي لأنه محزون مكلوم الفؤاد، استمع إلى رثائه في صديقه الشيخ عبد العزيز جاويش بعد مضي عام على وفاته وكيف يبدأ قصيدته:

ليل شربت به الهموم أجاجا ... جعل الأسى لكؤسهن مزاجا


١ تفري: تقطع.
٢ الالتياح: الحرقة والعطش
٣ راح: شديد الريح.
٤ راحوا -شموا.

<<  <  ج: ص:  >  >>