الذاكرة والذاكرة عند البدائيين نامية عادة نموا كبيرا. لقد فرضتها عليهم حاجيات كبيرة الأهمية وضرورات حيوية بالنسبة لهم, فنشاطهم العقلي لا تعاونه تلك الطرق العديدة التي تحل في سهولة ويسر عند المتحضرين محل الذاكرة, وتورثها الكسل دون أي ضرر في ذلك, ويخيل إلي أنه لم يهتم بعد بدراسة أثر الذاكرة في تطور اللغات. مع أننا نشاهد بعض لغات غير المتحضرين قد ملئت بالصيغ المتنوعة وظلت بهذا الوضع زمنا طويلا جدا، فنظمها الصرفية شديدة التعقيد أو أن مفرداتها كثيرة الثراء، ومثل هذه اللغات مرتبطة دون شك بتطور عجيب للذاكرة, ومن الطبيعي أن تكون الذاكرة محافظة, وعلى هذا فليس البناء النحوي هو الذي يكشف عن آثار اختلافات الحضارة، وإنما يكون ذلك في العناية التي يعبر بها عن التفصيلات المشخصة, فهناك رابطة بين درجة الحضارة والطابع المشخص إلى حد ما لأطوار النفس.
وبما أن ظاهرة سير اللغة نحو التجريد مرتبطة بتطور الحضارة فإنها ترينا كيف يجب علينا أن نفسر الأمثلة السابقة. إننا نعلم تماما أن اللغة تعد بمثابة انعكاس للضمير البشري، وأنها تعرفنا صورة النفس التي تحملها, ونفس الإنسان المتحضر أكثر قابلية للتجريد من نفس الإنسان البدائي؛ لأن ظروف حياة المتحضر توجه العقل إلى الاعتبارات المجردة على حساب كل ما هو مشخص فالتجارة تستلزم الحساب وبعبارة أخرى التفكير، وتطور الحياة السياسية تحبذ عادة ذوق الآراء العامة، وتمرين الفكر ينتقل بطبيعة الحال من الأمور المشخصة إلى الأمور المجردة ونستطيع أن نحكم على ذلك بأنفسنا، فلو أننا وازنا بيننا وبين أناس قريبي الجوار منا فأية فروق تتضح لنا من وجهة نظر التجريد بين العقليتين؟ والفلاح الأمي الذي يتكلم الفرنسية مثله تقريبا مثل غير المتحضر الذي ليس في متناول يده للتعبير عن آرائه غير اللغة الفرنسية. وإن عقليته للتصورها أداة ناقصة. وعلى هذا فهو لا يعجز عن أن يستكمل ما فيها من نقص ليجعلها صالحة لاستعماله, فهو يحيد بها عن المجردات ليسلكها في المشخصات التي يهتم بها دون سواها. إنه ليدخل فيها مثلا أسماء الأصوات وصيغ التعجب، وإنه ليحل المفردات محل