للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الرَّحِيمُ} الآيةَ [الزمر: ٥٣]. فصاحَ صيحةً عظيمةً، فنَظَروا إليهِ، فإذا هوَ قد ماتَ.

ورَوى ابنُ أبي الدُّنْيا بإسنادِهِ: أن صالِحًا المُرِّيَّ رَحِمَهُ اللهُ كانَ يومًا جالسًا في مجلسِهِ يَقُصُّ على النَّاسِ، فقَرَأ عندَهُ قارئ {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: ١٨]، فذَكَرَ صالحٌ النَّارَ وحالَ العصاةِ فيها وصفةَ سياقِهِم إليها وبالَغَ في ذلكَ، وبَكى النَّاسُ، فقامَ فتًى كانَ حاضرًا في مجلسِهِ وكانَ مسرفًا على نفسِهِ، فقالَ: أكلُّ هذا في القيامةِ؟ قالَ صالحٌ: نعم، وما هوَ أكبرُ منهُ، لقد بَلَغَني أنَّهُم يَصْرُخونَ في النَّارِ حتَّى تَنْقَطعَ أصواتُهُم فلا يَبْقى منهُم إلَّا كهيئةِ الأنينِ مِن المريضِ المدنفِ. فصاحَ الفتى: إنَّا للهِ وإنَّا إليهِ راجعونَ! وا غفلتاهُ عن نفسي أيَّامَ الحياةِ! ووا أسفاهُ على تفريطي في طاعتِكَ يا سيِّداه! ووا أسفاهُ على تضييعِ عمري في دارِ الدُّنيا! ثمَّ اسْتَقْبَلَ القبلةَ، وعاهَدَ الله على توبةٍ نصوحٍ، ودَعا الله أنْ يَتَقَبَّلَ منهُ، وبَكى حتَّى غُشِيَ عليهِ، فحُمِلَ مِن المجلسِ صريعًا، فمَكَثَ صالحٌ وأصحابُهُ يَعودونَهُ أيَّامًا، ثمَّ ماتَ، فحَضَرَهُ خلقٌ كثيرٌ، فكانَ صالِحٌ يَذْكُرُهُ كثيرًا في مجلسِهِ [ويَقولُ]: بأبي قتيلُ القرآن! وبأمِّي قتيلُ المواعظِ والأحزان! فرَآهُ رجلٌ في منامِهِ فقالَ: ما صَنَعْتَ؟ قالَ: عَمَّتْني بركةُ مجلسِ صالِحٌ فدَخَلْتُ في سعةِ رحمةِ اللهِ التي {وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: ١٥٦].

مَن آلَمَتْهُ سياطُ المواعظِ فصاحَ فلا جناح، ومَن زادَ ألمُهُ فماتَ فدمُهُ مباح (١).

قَضى اللهُ في القَتْلى قِصاصَ دِمائِهِمْ … وَلكِنْ دِماءُ العاشِقينَ جُبارُ

• وبَقِيَ هاهُنا قسمٌ آخرُ، وهوَ أشرفُ الأقسامِ وأرفعُها، وهوَ مَن يُفْني عمرَهُ في الطَّاعةِ، ثمَّ يُنَبَّهُ على قربِ الأجلِ لِيَجِدَّ في التَّزوُّدِ ويَتَهَيَّأ للرَّحيلِ بعملٍ يَصْلُحُ للِّقاءِ ويَكونُ خاتمةً للعملِ.

قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: لمَّا نَزَلَتْ على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [سورة النصر]؛ نُعِيَتْ لرسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نفسُهُ، فأخَذَ في أشدِّ ما كانَ اجتهادًا في أمرِ


(١) كان أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، خير البريّة بعد الأنبياء، يسمعون مواعظ خير الخلق وأعلمهم بالله وأدلّهم عليه، فتوجل قلوبهم وتذرف أعينهم ويسمع خنينهم، ثمّ لا يصيحون ولا يرقصون ولا يموتون!

<<  <   >  >>