للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَوْلِ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ مُصِيبًا أَيْضًا، كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ مُخْطِئًا، فَالْإِصَابَةُ عَلَى قَوْلِ الْمُصَوِّبَةِ إِضَافِيَّةٌ١، فَرَجَعَ الْقَوْلَانِ إِلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مُتَّفِقُونَ لَا مُخْتَلِفُونَ.

وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ وَجْهُ الْمُوَالَاةِ وَالتَّحَابِّ وَالتَّعَاطُفِ فِيمَا بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ٢، حَتَّى لَمْ يَصِيرُوا شِيَعًا وَلَا تَفَرَّقُوا فِرَقًا؛ لِأَنَّهُمْ مُجْتَمِعُونَ عَلَى طَلَبِ قَصْدِ الشَّارِعِ، فَاخْتِلَافُ الطُّرُقِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، كَمَا لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْمُتَعَبِّدِينَ لِلَّهِ بِالْعِبَادَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، كَرَجُلٍ تَقَرُّبُهُ الصَّلَاةُ، وَآخَرَ تَقَرُّبُهُ الصِّيَامُ، وَآخَرَ تَقَرُّبُهُ الصَّدَقَةُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ، فَهُمْ مُتَّفِقُونَ فِي أَصْلِ التَّوَجُّهِ لِلَّهِ الْمَعْبُودِ وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي أَصْنَافِ التَّوَجُّهِ، فَكَذَلِكَ الْمُجْتَهِدُونَ لَمَّا كَانَ قَصْدُهُمْ إِصَابَةَ مَقْصِدِ الشَّارِعِ صَارَتْ كَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةً وَقَوْلُهُمْ وَاحِدًا، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ لَهُمْ وَلَا لِمَنْ قَلَّدَهُمُ التَّعَبُّدُ بِالْأَقْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ كَمَا تَقَدَّمَ٣؛ لِأَنَّ التَّعَبُّدَ بِهَا رَاجِعٌ إِلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى، لَا إِلَى تَحَرِّي مَقْصِدِ الشَّارِعِ، وَالْأَقْوَالُ لَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ لِأَنْفُسِهَا، بَلْ لِيُتَعَرَّفَ مِنْهَا الْمَقْصِدُ الْمُتَّحِدُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ التَّعَبُّدُ مُتَّحِدَ الْوُجْهَةِ، وإلا، لم يصح، والله أعلم.


١ أي: بالنسبة للمجتهد نفسه ولمن قلده من غير المجتهدين، لا للواقع، وإلا لما تعدد الصواب، وقوله: "إلى قول واحد"، أي: في هذا المقام، وهو أنه لا يجوز له أن يرجع عن اجتهاده مطلقًا إلا ببينة، لا لمجرد أن غيره مصيب على قول التصويب. "د".
٢ ومن أحسن ما حكاه يونس الصدفي قال: "ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يومًا في مسألة ثم افترقنا، ولقيني، وأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى! ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق، في مسألة؟ ". حكاه الذهبي في ترجمته في "السير".
٣ في المسألة الثالثة، وهو أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُقَلِّدِ أَنْ يَتَخَيَّرَ فِي الْخِلَافِ، ولا بد من الترجيح وتحري مقصد الشارع بأي طريق كان، كما أن المجتهد ليس له أن يأخذ بأحد دليلين بدون ترجيح "د".

<<  <  ج: ص:  >  >>