عند الناس، ويقيدها تارة بأنها لا تنفع الا باذنه، وهذه الشفاعة في الحقيقة هي منه، فانه هو الذي قبل والذي أذن والذي رضى عن المشفوع، والذي وفقه لفعل ما يستحق به الشفاعة، وقوله فمتخذ الشفيع لا تنفعه شفاعته ولا يشفع فيه، ومتخذ الرب وحده إلهه ومعبوده، ومحبوبه ومرجوه ومخوفه الذي يتقرب إليه وحده، ويطلب رضاه ويتباعد من سخطه هو الذي يأذن الله سبحانه للشفيع ليشفع له قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فبين سبحانه ان متخذي الشفعاء مشركون وان الشفاعة لا تحصل باتخاذهم.
وسر الفرق بين الشفاعتين: ان شفاعة المخلوق للمخلوق وسؤاله للمشفوع عنده، لا يفتقر فيها إلى المشفوع عنده لا خلقاً ولا أمراً ولا اذناه، بل هو سبب محرك له من خارج كسائر الأسباب، وهذا السبب المحرك قد يكون عند المحرك لأجله ما يوافقه كمن يشفع عنده في أمر يحبه ويرضاه، وقد يكون عنده ما يخالفه كمن يشفع إليه في أمر يكرهه، ثم قد يكون سؤاله وشفاعته أقوى من المعارض فيقبل شفاعة الشافع وقد يكون المعارض الذي عنده أقوى من شفاعة الشافع فيردها، وقد يتعارض عنده الأمر ان فيبقى متردداً بين ذلك المعارض الذي يوجب الرد وبين الشفاعة التي تقتضي القبول فيتوقف إلى أن يترجح عنده أحد الأمرين بمرجح.
وهذا بخلاف الشفاعة عند الرب سبحانه، فانه ما لم يخلق شفاعة الشافع، ويأذن له فيها ويحبها منه، ويرضى عن الشافع لم يمكن أن توجد، والشافع لا يشفع عنده بمجرد امتثال أمره وطاعته له، فهو مأمور بالشفاعة مطيع بامتثال الأمر، فان أحداً من الأنبياء والملائكة وجميع المخلوقات لا يتحرك بشفاعة، ولا غيرها الا بمشيئة الله وخلقه، فالرب تعالى هو الذي يحرك الشفيع حتى يشفع، والشفيع عند المخلوق هو الذي يحرك المشفوع إليه حتى يقبل، والشافع عند المخلوق مستغن عنه في أكثر أموره، وهو في الحقيقة شريكه، ولو أن مملوكه وعبده، فالمشفوع عنده محتاج إليه فيما يناله من رزق او نصر أو غيره فكل منهما محتاج إلى الآخر.
ومن وفقه الله لفهم هذا الموضوع تبين له حقيقة التوحيد والشرك، والفرق بيت ما أثبت الله من الشفاعة، وما نفاه وأبطله، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور، ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله، وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم علم أن بين السلف وبين هؤلاء الخلوف من البعد أبعد مما بين المشرق والمغرب، وانهم على شيء والسلف على شيء كما قيل:
سارت مشرقة وسرت مغرباً ... شتان بين مشرق ومغرب
والأمر والله أعظم مما ذكرنا انتهى وبه كمل الجواب، والحمد لله الذي هدانا لدينه الذي رضيه لعباده، وما كنا لنهتدي لولا ان هدانا الله، وصلى الله وسلم على محمد النبي الأمي وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.