للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والوَجْه الثَّاني: أنَّ زَكَرِيا عَليه السَّلام طَلَب ذَلك مِنْ الله تَعالى، فَلَو كَان ذَلك مُحَالًا مُمْتَنِعًا لَمَا طَلَبَه مِنْ الله تَعالى، فَثَبَتَ بِهَذين الوَجْهَين أنَّ قَولَه: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ) لَيْس للاسْتِبْعَاد، بَلْ ذَكَر العُلَمَاء فِيه وُجُوهًا:

الأوَّل: أنَّ قَوله: (أَنَّى) مَعْنَاه: مِنْ أين؟ ويُحْتَمَل أن يَكُون مَعْنَاه: كَيف تُعْطِي وَلَدًا على القِسْم الأوَّل، أمْ على القِسْم الثَّاني؟ (١)

وذلك لأنَّ حُدُوث الوَلَد يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يُعِيد الله شبابه ثم يُعْطِيه الولد مع شيخوخته.

والثاني: أنَّ مَنْ كَان آيِسًا مِنْ الشيء مُسْتَبْعِدًا لِحُصُولِه ووقُوعِه إذا اتّفَق أنْ حَصَل لَه ذلك الْمَقْصُود فَرُبّمَا صَار كالْمَدْهُوش مِنْ شِدّة الفرح، فَيَقُول: كَيف حَصَل هَذا؟ ومِن أين وَقَع هذا؟ (٢)

الثَّالِث: أنَّ الْمَلائكَة لَمَّا بَشَّرُوه بـ (يَحْيَى) لَم يَعْلَم أنه يُرْزَق الوَلَد مِنْ جِهَة أُنْثَى أوْ مِنْ صُلْبِه، فَذَكَر هَذا الكَلام لِذَلك.

الاحْتِمَال الرَّابِع: أنَّ العَبْد إذا كَان في غَايَة الاشْتِيَاق إلى شَيء فَطَلَبَه مِنْ السَّيِّد ثُم إنَّ السَّيِّد يَعِدُه بأنّه سَيُعْطِيه بَعْد ذَلك فالْتَذّ السَّائل بِسَماع ذَلك الكَلام فَرُبَّمَا أعَاد السُّؤَال لِيُعِيد ذَلك الْجَوَاب، فَحِينَئذ يَلْتَذّ بِسَمَاع تِلك الإجَابَة مَرَّة أُخْرَى؛ فَالسَّبَبَ في إعَادَة زَكَرِيّا هَذا الكَلام يُحْتَمل أن يَكُون مِنْ هَذا البَاب.

الْخَامِس: نَقَل (٣) سُفيان بن عُيينة أنه قَال: كَان دُعَاؤه قَبْل البِشَارَة بِسِتِّين سَنَة حَتَّى كَان قد نَسِي ذلك السُّؤال وَقْت البِشَارَة، فَلَمَّا سَمِع البِشَارَة زَمَان الشَّيْخُوخَة لا جَرَم اسْتَبْعَد ذلك عَلى مَجْرَى العَادَة لا شَكًّا في قُدْرَة الله تَعالى، فَقَال مَا قَال.


(١) القسم الأول: السؤال بـ (أين) والقسم الثاني: السؤال بـ (كيف).
(٢) كفرح الواجد لدابته وقد أيس من راحلته فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح". (رواه مسلم ح ٢٧٤٧)، ورواه البخاري مُخْتَصَرًا (ح ٥٩٥٠).
(٣) هكذا في المطبوع، ولعلها: نُقِل عن سُفيان بن عيينة.

<<  <   >  >>