للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأوْلى التَّأوِيلات في ذلك عِندي بالصَّواب أن يُقَال: إنَّ الله جَلّ ثَناؤه أخْبَر عَنْ هَؤلاء الذين أقْسَمُوا بالله جَهْد أيْمَانِهم لئن جَاءَتْهُم آيَة لَيُؤمِنن بها؛ أنه يُقَلِّبُ أفْئدَتهم وأبْصَارَهم ويُصَرِّفُها كَيف شَاء، وأنَّ ذلك بِيَدِه يُقِيمُه إذا شَاء، ويُزِيغُه إذا أرَاد، وأنَّ قَولَه: (كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) دَليل على مَحْذُوف مِنْ الكَلام، وأنَّ قَولَه: (كَمَا) تَشْبِيه مَا بَعْدَه بِشَيء قَبْلَه.

وإذْ كان ذلك كَذلك، فالوَاجِب أن يَكُون مَعْنى الكَلام: ونُقَلِّبُ أفْئدَتهم فَنُزِيغُها عن الإيمان، وأبْصَارَهم عن رُؤية الْحَقّ ومَعْرِفَة مَوْضِع الْحُجَّة، وإن جَاءتْهم الآية التي سَألُوها فلا يُؤمِنُوا بالله ورَسُولِه ومَا جَاء بِه مِنْ عِنْد الله، كَمَا لم يُؤمِنُوا بِتَقْلِيبِنا إياها قَبل مَجِيئها مَرَّة قَبْل ذلك.

وإذا كان ذلك تأويله، كانت "الهاء" مِنْ قَولِه: (كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ) كنايةَ ذِكْرِ التَّقْلِيب (١).

وقال السمرقندي: قال تعالى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ) يعني نَتْرُك قُلُوبَهم وأبْصَارَهم مُعَلَّقَة كَما هِي ولا نُوفِّقهم كَمَا لم يُؤمِنُوا بِه أوَّل مَرَّة قَبْل نُزُول الآيات.

ويُقال: عِند انْشِقَاق القَمَر (٢) لَمَّا لم يَعْتَبِرُوا به ولم يُؤمِنُوا فَعَاقَبَهم الله تَعالى وَخَتَم عَلى قُلُوبِهم، فَثَبَتُوا على كُفْرِهم. (وَنَذَرُهُمْ) يَقول: ونَدَعُهم في طُغْيَانِهم، يَعْنِي في ضَلالٍ. (يَعْمَهُونَ)، يَعْني: يَتَرَدَّدُون ويَتَحَيَّرُون فِيه.

ويُقال: كما لم يُؤمِنوا به أوَّل مَرَّة، يَعْنِي: كَمَا لم يُؤمِن بِه أوَائلُهم مِنْ الأُمَم الْخَالِية لَمَّا سَألُوا الآية مِنْ أنْبِيائهم عَليهم السَّلام (٣).


(١) جامع البيان، مرجع سابق (٩/ ٤٩١، ٤٩٢).
(٢) أي: عندما انْشَقّ القَمَر وأرَاهم إيّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يُؤمِنُوا، بل قالوا: سَخرنا محمد.
كما في مسند أحمد (ح ١٦٧٥٠)، وجامع الترمذي (ح ٣٢٨٩)، وأصل الحديث مُخرَّج في الصحيحين من حديث ابن مسعود: البخاري (ح ٣٤٣٧)، ومسلم (ح ٢٨٠٠).
(٣) بحر العلوم، مرجع سابق (١/ ٤٩٣، ٤٩٤).

<<  <   >  >>