[البقرة: ٣٤]. إلى غير ذلك من الآيات الدَّالّة على ذلك، مَع أنّ شَأن هَارُوت ومَارُوت على ما ذُكِر أخَفّ مما وَقَع مِنْ إبْلِيس لَعَنَه اللهُ تعالى (١).
ورجّح القاسمي كون "ما" نافية، وأنَّ هَارُوت ومَارُوت كَانا رَجُلَين مُتَظَاهِرَين بالصَّلاح. فقال: اعْلَم أنَّ للعُلَمَاء في هذه الآية وُجُوهًا كَثيرة، وأقْوالًا عَديدة؛ فمنهم مَنْ ذَهَب فيها مَذْهب الأخْبَارِيين نَقَله الغَثّ والسَّمِين، ومِنهم مَنْ وَقَفَ مَع ظَاهِرِها البَحْت وتَمَحَّل لِمَا اعْتَرَضَه بِمَا الْمَعْنَى الصَّحِيح في غِنى عَنه، ومِنهم مَنْ ادَّعَى فِيها التَّقْدِيم والتَّأخِير، ورَدّ آخِرَها على أوّلها، بِمَا جَعَلها أشبَه بالألْغَاز والْمُعَمَّيَات، التي يَتَنَزَّه عنها بَيان أبْلَغ كَلامِهم، إلى غير ذلك مما يَرَاه المُتَتَبِّع لِمَا كُتِب فيها.
والذي ذَهَب إليه الْمُحَقِّقُون أنَّ هَارُوت ومَارُوت كَانا رَجُلَين مُتَظَاهِرَين بالصَّلاح والتَّقْوى في بَابِل .... وكانا يُعلِّمان النَّاس السِّحْر. وبَلَغ حُسْن اعْتِقَاد النَّاس بِهِما أنْ ظَنُّوا أنَّهُما مَلَكَان مِنْ السَّمَاء، وما يُعلِّمَانِه للنَّاس هو بِوحْي مِنْ الله، وبَلَغ مَكْر هَذَين الرَّجُلَين ومُحَافَظتهما على اعْتِقَاد النَّاس الْحَسَن فِيهما أنهما صَارَا يَقُولان لِكُلّ مَنْ أرَاد أن يَتَعَلَّم مِنهما:(إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ)، أي: إنما نَحْن أُولو فِتْنَة نَبْلُوك ونَخْتَبِرُك، أتَشْكُر أمْ تَكْفُر، ونَنْصَح لَك ألَّا تَكْفُر. يقولان ذلك لِيُوهِما النَّاس أنَّ عُلومَهما إلَهِيَّة، وصِنَاعَتهما رَوْحَانِيَّة، وأنهما لا يَقْصِدَان إلَّا الْخَير …
فـ "ما" هنا نافية على أصَحَّ الأقْوال، ولفظ (الْمَلَكَيْنِ) هنا وارِد حَسب العُرْف الْجَارِي بَيْن النَّاس في ذلك الوَقْت.
ثم خَلَص القاسمي إلى: "أنَّ مَعْنَى الآية مِنْ أوَّلها إلى آخِرها هكذا:
أن اليَهود كَذَّبُوا القُرآن ونَبَذُوه وَرَاء ظُهورِهم، واعْتَاضُوا عَنه بالأقَاصِيص والْخُرَافَات التي يَسْمَعُونَها مِنْ خُبَثَائهم عن سُلَيمَان ومُلْكِه، وزَعَمُوا أنه كَفَر، وهُو لَمْ
(١) تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (١/ ٥٢٢، ٥٢٣) وهذا لا يَتَعَارَض مع مَا سَبَق نَقْله عنه في رَدّ قول ابن جرير، فإنه إنما ردّ إنزال السِّحْر عليهما، والإذْن بِتَعْلِيمِه.