للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَإِذَا عُرِفَ مَعْنَى الْقِيَاسِ فَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ: الْأَصْلِ، وَالْفَرْعِ، وَحُكْمِ الْأَصْلِ، وَالْوَصْفِ الْجَامِعِ.

أَمَّا الْأَصْلُ، فَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ مَا بُنِيَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ كَقَوْلِنَا: إِنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ أَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ رِسَالَةِ الرَّسُولِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ مَعْرِفَةَ الرَّسُولِ تَنْبَنِي عَلَى مَعْرِفَةِ الْمُرْسَلِ. الثَّانِي: مَا عُرِفَ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ افْتِقَارٍ إِلَى غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يُبْنَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَذَلِكَ كَمَا تَقُولُهُ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي النَّقْدَيْنِ فَإِنَّهُ أَصْلٌ وَإِنْ لَمْ يُبْنَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ.

وَعَلَى هَذَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْأَصْلِ فِي الْقِيَاسِ، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا قِسْنَا النَّبِيذَ عَلَى الْخَمْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " «حُرِّمَتِ الْخَمْرَةُ لِعَيْنِهَا» " (١) فِي تَحْرِيمِ الشَّرَابِ هَلِ الْأَصْلُ هُوَ النَّصُّ أَوِ الْخَمْرُ أَوِ الْحُكْمُ الثَّابِتُ فِي الْخَمْرِ؟ وَهُوَ التَّحْرِيمُ مَعَ اتِّفَاقِ الْكُلِّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْخَمْرِ وَهِيَ الشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ لَيْسَتْ هِيَ الْأَصْلَ.

فَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: الْأَصْلُ هُوَ النَّصُّ الدَّالُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ لِأَنَّهُ الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ التَّحْرِيمُ، وَالْأَصْلُ مَا بُنِيَ عَلَيْهِ.


(١) حَدِيثُ " حُرِّمَتِ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا "، وَيُرْوَى: " بِعَيْنِهَا قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا وَالْمُسْكِرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ ". رَوَاهُ الْعُقَيْلِيُّ فِي تَرْجَمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السُّبَيْعِيِّ عَنِ الْحَارِثِ عَنْ عَلَيٍّ مَرْفُوعًا، وَأَعَلَّهُ بِمُحَمَّدِ بْنِ الْفُرَاتِ، وَرَوَاهُ الْعُقَيْلِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بِشْرٍ الْغَطْفَانِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْحَارِثِ عَنْ عَلَيٍّ مَرْفُوعًا، وَقَالَ: وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مَجْهُولٌ فِي الرِّوَايَةِ وَالنَّسَبِ وَحَدِيثُهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ وَإِنَّمَا يُرْوَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ. وَقَدْ رَوَاهُ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ النَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ طُرُقٍ، وَالْبَزَّارُ فِي مَسْنَدِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي الْعِبَارَةِ، وَمَنْ أَرَادَ تَفْصِيلَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى كِتَابِ نَصْبِ الرَّايَةِ لِلزَّيْلَعِيِّ وَإِلَى تَرْجَمَةِ أَبِي إِسْحَاقَ السُّبَيْعِيِّ وَالْحَارِثِ الْأَعْوَرَ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ لِابْنِ حَجَرٍ، فَإِنَّ أَبَا إِسْحَاقَ يُدَلِّسُ وَقَدْ عَنْعَنَ، وَالْحَارِثُ الْأَعْوَرُ كَذَّابٌ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلُغَةُ أَهْلِ الْجَدَلِ وَاصْطِلَاحُ عُلَمَاءِ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ بَعْدَ اسْتِحْكَامِ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ ظَاهِرَةٌ فِي صِنَاعَةِ الْحَدِيثِ وَوَضْعِهِ لِنُصْرَةِ الْمَذْهَبِ

<<  <  ج: ص:  >  >>