للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَنَهْيٌ عَنِ الِاتِّفَاقِ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ. (١) الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ، قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: ( «إِذَا اجْتَهَدَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ» ) (٢) ، وَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي انْقِسَامِ الِاجْتِهَادِ إِلَى خَطَإٍ وَصَوَابٌ.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: نَحْنُ نَقُولُ بِمُوجِبِ الْخَبَرِ وَأَنَّ الْحَاكِمَ إِذَا أَخْطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ، غَيْرَ أَنَّ الْخَطَأَ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا إِذَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ أَوْ إِجْمَاعٌ أَوْ قِيَاسٌ جَلِيٌّ، وَخَفِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ عَنْهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، أَوْ فِيمَا إِذَا أَخْطَأَ فِي مَطْلُوبِهِ مِنْ رَدِّ الْمَالِ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ بِسَبَبِ ظَنِّهِ صِدْقَ الشُّهُودِ وَهُمْ كَاذِبُونَ، أَوْ مُغَالَطَةِ الْخَصْمِ لِكَوْنِهِ أَخْصَمَ مِنْ خَصْمِهِ وَأَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ، لَا فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " إِنَّمَا أَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ (٣) وَإِنَّكُمْ لَتَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ صَاحِبِهِ، فَمَنْ حَكَمْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ ". (٤) الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَاعِ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا عَلَى إِطْلَاقِ لَفْظِ الْخَطَإِ فِي الِاجْتِهَادِ.


(١) نُصُوصُ النَّهْيِ عَنِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ عَامَّةٌ، فَتَخْصِيصُهَا بِمَا ذُكِرَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، مَا اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْدُ مِنْ أَمْرِ الشَّرْعِ بِالِاخْتِلَافِ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ وَنَهْيِهِ عَنِ الِاتِّفَاقِ فِيهَا خَطَأٌ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى اتِّبَاعِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ مَا رَجُحَ عِنْدَهُ بَعْدَ الْبَحْثِ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الْأَمْرُ بِالِاخْتِلَافِ، وَإِنَّمَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِيهَا أَمْرًا ضَرُورِيًّا نَشَأَ عَنْ تَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْمَوَاهِبِ وَالْعُقُولِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى الْأَدِلَّةِ وَاخْتِلَافِهَا فِي الدَّلَالَةِ وَدَرَجَةِ الثُّبُوتِ، وَلَوْ وَسِعَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَّفِقُوا مَا جَازَ لَهُمْ أَنْ يَخْتَلِفُوا.
(٢) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ مَعَ وَحْدَةِ الْمَعْنَى.
(٣) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ ص٨٠ ج ٢، انْظُرِ الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي بَابِ أَدَبِ الْقَاضِي مِنْ تَلْخِيصِ الْحَبِيرِ.
(٤) جُزْءٌ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ أُمِّ سَلَمَةَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَأَوَّلُهُ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ. . إِلَخْ.

<<  <  ج: ص:  >  >>