الْقَضِيَّةِ بِالنَّصِّ حُكْمًا وَاحِدًا، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ الْحُكْمَ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَعَلِمَ (سُلَيْمَانُ) بِالنَّصِّ النَّاسِخِ دُونَ (دَاوُدَ) فَكَانَ هَذَا هُوَ الْفَهْمُ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ.
وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُخْطِئًا لَمَا كَانَ قَدْ أُوتِيَ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ حُكْمًا وَعِلْمًا، (١) وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ حُكْمَهُمَا كَانَ مُخْتَلِفًا لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا حَكَمَا بِالِاجْتِهَادِ مَعَ الْأِذْنِ فِيهِ، وَكَانَا مُحِقَّيْنِ فِي الْحُكْمِ إِلَّا أَنَّهُ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَى مَا حَكَمَ بِهِ سُلَيْمَانُ، فَصَارَ مَا حَكَمَ بِهِ حَقًّا مُتَعَيَّنًا بِنُزُولِ الْوَحْيِ بِهِ، وَنُسِبَ التَّفْهِيمُ إِلَى سُلَيْمَانَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ دَاوُدَ كَانَ مُخْطِئًا فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ غَيْرَ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ فِيهَا نَصٌّ يَتَحَقَّقُ عَلَيْهِ سُلَيْمَانُ دُونَ دَاوُدَ، وَنَحْنُ نُسَلِّمُ الْخَطَأَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِيمَا إِذَا حَكَمَا بِالِاجْتِهَادِ وَلَيْسَ فِي الْوَاقِعَةِ نَصٌّ.
وَعَلَى الْآيَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ: أَنَّهُ يَجِبُ حَمْلُهُمَا عَلَى الْأُمُورِ الْقَطْعِيَّةِ دُونَ الِاجْتِهَادِيَّةِ.
وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، وَالْقَضَايَا الِاجْتِهَادِيَّةُ لَا عِلْمَ فِيهَا، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا الْقَضَايَا الِاجْتِهَادِيَّةُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يَدُلُّ عَلَى تَصْوِيبِ الْمُسْتَنْبِطِينَ وَالرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَصْوِيبِ الْبَعْضِ مِنْهُمْ دُونَ الْبَعْضِ، بَلْ غَايَتُهُ الدَّلَالَةُ بِمَفْهُومِهِ عَلَى عَدَمِ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَوَامِّ، وَمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِنْبَاطِ وَالرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ.
وَعَلَى الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى النَّهْيِ عَنِ التَّفَرُّقِ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا إِنَّمَا هُوَ التَّفَرُّقُ فِي أَصْلِ الدِّينِ وَالتَّوْحِيدِ وَمَا يُطْلَبُ فِيهِ الْقَطْعُ دُونَ الظَّنِّ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ الِاجْتِهَادِ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ مَا أَوْجَبَهُ ظَنُّهُ، وَمَنْهِيٌّ عَنْ مُخَالَفَتِهِ، وَهُوَ أَمْرٌ بِالِاخْتِلَافِ
(١) مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ إِسْرَائِيلِيَّاتٌ لَمْ تَثْبُتْ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ تَأْيِيدِ الْآيَةِ لِلرِّوَايَةِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَإِنَّ اللَّهَ أَثْنَى عَلَيْهِمَا بِإِيتَاءِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ مُطْلَقًا، لَا فِي خُصُوصِ الْوَاقِعَةِ؛ وَلِأَنَّ الثَّنَاءَ عَلَى الْعَالِمِ لَا يَتَنَافَى مَعَ خَطَئِهِ بَعْدَ بَذْلِ جُهْدِهِ، وَمَا ذُكِرَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمَنْعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، بَلْ هُوَ إِلَى الْوَهْمِ أَقْرَبُ. انْظُرْ جَوَابَ الْمُؤَلِّفِ عِنْدَ اسْتِدْلَالِ الْمُصَوِّبَةِ بِآيَةِ: (وَكُلًّا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute