الثاني فإن أصحاب علم البيان قبلك لم يخالفوك في ذلك لتحاجهم وتعيب عليهم، وأنت لما حكيت أقوال أصحاب هذه الصناعة لم تحك عنهم أنهم لم يشترطوا ذلك في الكناية، أعني أن تكون مترددة بين محمل حقيقي ومحمل مجازي، وإنما حكيت عنهم أنهم لم يشترطوا أن يجوز حمل الكلام على كلا المحملين، فهذا هو الذي حكيت عنهم، وخالفتهم، وزعمت أنك استنبطت وتكلفت الدلالة عليه، فكيف تتركه جانبا، وتستدل على ما لا تعلق له به أصلا؟
ثم يقال له: قد نزلنا على ما تريد، ونحن نكلمك فيما يتعلق دليلك به، لم قلت إنه لا بد أن يتردد لفظ الكناية بين محملي حقيقة ومجاز، ولم يتردد بين مجازين؟ والذي تكلمت به على ذلك ليس بشيء، أما أولا فإنك أردت أن تقول: إما أن يكون اللفظ الدال على المجازين شركة في الدلالة على الحقيقة التي هي أصل لهما، فأما قولك هذا فإنه يقتضي أن يكون الإنسان متكلما بشيء، وهو يريد تبيين غيره، وأصل الوضع أن يتكلم بشيء وهو يريد شيئا غيره، فيقال لك: أليس معنى قولك الكناية أن تتكلم بشيء وأنت تريد غيره أن قولك "شيئا" تريد واحدا غيره؟
كلا، ليس هذا هو المقصود أن تتكلم بشيء وأنت تريد غيره، فإن أردت شيئا واحدا فقط أردت غيره، وإن أردت شيئين أو ثلاثة أشياء أو ما زاد فقد أردت غيره؛ لأن كل ذلك غير ما دل عليه ظاهر لفظك، فليس في لفظة "غير" ما يقتضي التوحيد والإفراد.