وبينهما فرق عظيم، فعائشة ومعاوية ﵄ لم يقولا: كان مناما، وإنما قالا: أسري بروحه ولم يفقد جسده، وفرق ما بين الأمرين:[أن] ما يراه النائم قد يكون أمثالا مضروبة للمعلوم في الصورة المحسوسة، فيرى كأنه قد عرج إلى السماء، وذهب به إلى مكة، وروحه لم تصعد ولم تذهب، وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال، فما أراد (١) أن الإسراء مناما، وإنما أراد أن الروح ذاتها أسري بها، ففارقت الجسد ثم عادت إليه، ويجعلان هذا من خصائصه، فإن غيره لا تنال ذات روحه الصعود الكامل إلى السماء إلا بعد الموت.
وقيل: كان الإسراء مرتين، مرة يقظة، ومرة مناما، وأصحاب هذا القول كأنهم أرادوا الجمع بين حديث شريك وقوله: ثم "استيقظت"، وبين سائر الروايات. وكذلك منهم من قال: بل كان مرتين، مرة قبل الوحي، ومرة بعده، ومنهم من قال: بل ثلاث مرات، مرة قبل الوحي، ومرتين بعده، وكلما اشتبه عليهم لفظ زادوا مرة، للتوفيق!! وهذا يفعله ضعفاء أهل الحديث، وإلا فالذي عليه أئمة النقل: أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة، بعد البعثة، قبل الهجرة بسنة، وقيل: بسنة وشهرين، ذكره ابن عبد البر، قال شمس الدين ابن القيم: يا عجبا لهؤلاء الذين زعموا أنه كان مرارا! كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة يفرض عليهم الصلوات خمسين، ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمسا، فيقول: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، ثم يعيدها في المرة الثانية إلى خمسين، ثم يحطها إلى خمس؟! وقد غلط الحفاظ شريكا في ألفاظ من حديث الإسراء، ومسلم أورد المسند منه، ثم قال:"فقدم وأخر وزاد ونقص"، ولم يسرد الحديث، وأجاد ﵀. انتهى كلام الشيخ شمس الدين ﵀.
وكان من حديث الإسراء: أنه ﷺ أسري بجسده في اليقظة، على الصحيح، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، راكبا على البراق، صحبة جبرائيل ﵇، فنزل هناك، وصلى بالأنبياء إماما، وربط البراق بحلقة باب المسجد، وقد قيل: إنه نزل بيت لحم وصلى فيه، ولا يصح عنه ذلك البتة، ثم عرج من بيت
(١) قلت: لم يصح ذلك عنهما، فهو في غنية عن التأويل.