للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والحق: أن التوراة والإنجيل والزبور والقرآن من كلام الله حقيقة، وكلام الله تعالى لا يتناهى، فإنه لم يزل يتكلم بما شاء إذا شاء كيف شاء، ولا يزال كذلك. قال تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾ [الكهف: ١٠٩]. وقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [لقمان: ٢٧]. ولو كان ما في المصحف عبارة عن كلام الله، وليس هو كلام الله، لما حرم على الجنب المحدث مسه، ولو كان ما يقرأه القارئ ليس كلام الله لما حرم على الجنب والمحدث قراءته، بل كلام الله محفوظ في الصدور، مقروء بالألسن، مكتوب في المصاحف، كما قال أبو حنيفة في الفقه الأكبر، وهو في هذه المواضع كلها حقيقة، وإذا قيل: فيه خط فلان وكتابته، فهم منه معنى صحيح حقيقي، وإذا قيل: فيه مداد قد كتب به. فهم منه معنى صحيح حقيقي، وإذا قيل: المداد في المصحف. كانت الظرفية فيه غير الظرفية المفهومة من قول القائل: فيه السموات والأرض، وفيه محمد وعيسى، ونحو ذلك. وهذان المعنيان مغايران لمعنى قول القائل: فيه كلام الله. ومن لم يتنبه للفروق بين هذه المعاني ضل ولم يهتد للصواب، وكذلك الفرق بين القراءة التي هي فعل القارئ، والمقروء الذي هو قول الباري، من لم يهتد له فهو ضال أيضًا، ولو أن إنسانًا وجد في ورقة مكتوبًا: ألا كل شيء ما خلا الله باطل من خط كاتب معروف. لقال: هذا من كلام لبيد حقيقة، وهذا خط فلان حقيقة، وهذا كل شيء حقيقة، وهذا خبر حقيقة، ولا تشتبه هذه الحقيقة بالأخرى.

والقرآن في الأصل: مصدر، فتارة يذكر ويراد به القراءة، قال تعالى: ﴿وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ [الإسراء: ٧٨]. وقال : "زينوا القرآن بأصواتكم" (١). وتارة يذكر ويراد به المقروء، قال تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل: ٩٨]. وقال تعالى: ﴿وإِذَا


(١) صحيح، رواه أبو داود وغيره من أصحاب السنن والحاكم وأحمد بسند صحيح عن البراء بن عازب، "صحيح أبي داود" "١٣٢٠".

<<  <   >  >>