للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

من أن يتكلم الله فيَّ بوحي يتلى" (١). ولو كان المراد من ذلك كله خلاف مفهومه لوجب بيانه، إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولا يعرف في لغة ولا عقل قائل متكلم لا يقوم به القول والكلام وإن زعموا أنهم فروا من ذلك حذرا من التشبيه، فلا يثبتوا صفة غيره، فإنهم إذا قالوا: يعلم لا كعلمنا، قلنا: ويتكلم لا كتكلمنا، وكذلك سائر الصفات، وهل يعقل قادر لا تقوم به القدرة، أو حي لا تقوم به الحياة؟ وقد قال : "أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر" (٢)، فهل يقول عاقل: إنه عاذ بمخلوق؟ بل هذا كقوله: "أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك" (٣)، وكقوله: "أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر" (٤). وكقوله: "وأعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا" (٥)، كل هذه من صفات الله تعالى.

وهذه المعاني مبسوطة في مواضعها، وإنما أشير إليها هنا إشارة.

وكثير من متأخري الحنفية على أنه معنى واحد، والتعدد والتكثر والتجزؤ والتبعض حاصل في الدلالات، لا في المدلول. وهذه العبارات مخلوقة، وسميت "كلام الله" لدلالتها عليه وتأديه بها، فإن عبر بالعربية فهو قرآن، وإن عبر بالعبرانية فهو توراة، فاختلفت العبارات لا الكلام. قالوا: وتسمى هذه العبارات كلام الله مجازا!

وهذا الكلام فاسد، فإن لازمه أن معنى قوله: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾ [الإسراء: ٣٢]، هو معنى قوله: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [البقرة: ٤٣]. ومعنى آية الكرسي هو معنى آية الدين! ومعنى سورة الإخلاص هو معنى ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾ [المسد: ١]. وكلما تأمل الإنسان هذا القول تبين له فساده، وعلم أنه مخالف لكلام السلف.


(١) البخاري ومسلم في حديث طويل لها في قصة الإفك.
(٢) صحيح، رواه أحمد "٣/ ١٤٩"، وابن السني "٦٣١" عن عبد الرحمن بن حنبش مرفوعا بسند صحيح.
(٣) مسلم وقد مضى.
(٤) صحيح، وتقدم.
(٥) صحيح، وتقدم.

<<  <   >  >>