كان الليل في لبنان هو ذلك الزمن الجديد الطالع كل مساء بضحكات الساهرين.. تتردد في أصدائه "الدبكة" متجانسة مع حركات النضال، ومع أحلام الحرية، ومع أضواء التاريخ التي كانت تنبعث من جنبات صفوف أعمدة "بعلبك".
قادر -ذلك الليل- على أن يفصل بين ضجيج الأضواء والسهارى وبين صمت تلك الصخور الناطقة برسومها وبنقوشها وبدلالتها على حضارة عظيمة.
وكان يسري بين الضجيج والصمت ذلك "الحلم" الرومانسي الصادر من صوت "فيروز" وهي تحكي قصة لبنان، ثم وهي تبكي لبنان بعد ذلك، ثم وهي تفتش عن لبنان الآن.
أصبح الليل في لبنان هو هذا الظلام الذي اعتقل خطوات السهارى، وجلد خطرات النسيم حتى جعلها لهبا، وأحال "الدبكة" إلى رقصة حرب في أدغال أفريقية في مجتمع أكلة لحوم البشر عندما اختل التقييم، وانتفى الفرق بين أن يقتل اللبناني أخاه، أو يقتل جاره، أو يقتل أي إنسان, إلا أن يكون ذلك المقتول عدوا حقيقيا.
والذكريات صدى السنين الحاكي -كما غنت فيروز- نتذكر اليوم ساعة مرت في العمر، قبل اندلاع الحرب الأهلية وقبل التهام جنوب لبنان, كما نقف بجانب شواهد من التاريخ في لبنان, تلك التي ما زالت باقية من عهد الرومان بضخامتها وبرموزها، وهي تطل على سهل فسيح وتبدو من شرفاتها أشجار المشمش والكرز، وترجع فيها هياكل "جوبيتر وفينوس وباخوس" إلى القرون الأولى للميلاد، ويحيط ببعضها جزء من أسوار عربية شيدت بعد ذلك!.
هنا يرى التاريخ حكايات عن: جبابرة نقلوا إليها الحجارة الضخمة قبل نوح والطوفان، وعن عمالقة من عوالم أخرى نقلت حجارة عالم بعيد، وعن غزاة حاولوا تذويب معالمها وتغريب لسانها، وكل أولئك ذهبوا وبقيت لبنان.
فالأرض لا تموت أبدا بل الذي يموت هو الإنسان.
إذا فرط الإنسان في أرضه.. مات!
إذا باع حريته ثمنا لمصالحه.. مات!
إذا وضع "الشخص" فوق قيمة ومصلحة أرضه.. مات.
ذلك أيضا.. يعيدني إلى "وقفة" فلسفية، من خلال أسئلة طرحت على