إذا لم يكونوا قد رأوا تلك الثقافة خطرا على حياتهم.
قلت له: نعم لقد صدقت، فالثقافة العصرية بعلومها وفنونها وآدابها، هي بالفعل خطرا على "حياتهم، لأنها تحمل من العلم ما لا يعلمون، ومن الفن ما لا يقدرون، ومن الأدب ما لا يتذوقون, إن الأمر -يا سيدي- لا يزيد ولا يقل عن دفاع غريزي عن النفس تماما كما يفزع الكائن الحي أينما كان، لأخف حركة غير مألوفة يحس بها وقد فاجأته فتسري في بدنه رعدة الخوف، وتفرز له الغدد المختصة ما تفرزه داخل جسمه وينسحب الدم من رأسه حتى ليصفر وجهه، وذلك ليتجه ذلك الدم المنسحب إلى الأذرع والأرجل استعدادا إما لمواجهة القتال وإما للفرار وهو أمر طبيعي يا أخي لا غرابة فيه ولا شذوذ، والسلطان "وحاشيته وأشباهه" في حايتنا الثقافية قد حفظ أشياء حفظا أصم, وهو مستعد لإخراجها كلما دعت الحاجة ثم يطويها في صندوقها انتظارا للحظة أخرى يطلب منه فيها إعادة تسميعها، ومن هذا يكسب رزقه الحلال، فلماذا يعرض نفسه للخطر الجديد الوافد كائنا ما كان نفعه عند أصحابه؟ من هنا رأيته يرى في أية "ثقافة" ترد إلى أرضه "غزوا".
قال زائري: ومتى يا ترى، ولماذا أخذ أصحابنا هذا الموقف؟ أما كانت تلك هي الحل دائما معنا ومع غيرنا.
أجبته قائلا: إنها حالة تنتاب الرءوس في مراحل الضعف، لكنها تختفي اختفاء تاما في مراحل القوة، انظر إلى العرب الأوائل عندما بلغوا من القوة ما بلغوا في صدر الإسلام، لقد فتحوا ثغورهم جميعا لكل ثقافة تأتي من خارج حدودهم، أيا ما كان مصدرها, وهي إن لم تأتهم من تلقاء نفسها أتوابها عامدين، جاءتهم "ثقافة" وأرسلوا رسلهم ليجيئوا لهم بثقافة ولم يخطر لأحد منهم -إلا نادرا- أن يقول قائل منهم إنه "غزو ثقافي" وذلك لأنهم كانوا أصحاء أشداء لا يخشون على أنفسهم لفحة البرد أو حتى ضربات الصقيع.
ولماذا نطوي القرون القهقرى أكثر من ألف عام بحثا عن مثال لما قد كان بين الأسلاف، أنه لتكفينا بضع عشرات من السنين، لنرسل أبصارنا إلى ساحة الرجال، فهذا هو الشيخ محمد عبده يقرأ ما كتبه هانوتو ليرد عليه ثم يسافر إلى انجلترا ليلتقي وجها لوجه مع شيخ فلاسفة بريطانيا في ذلك العهد، وهو هربرت سبنسر، ثم هاجم أولاء رجالنا في العشرات الأربع الأولى من هذا القرن: قاسم أمين, لطفي السيد, طه حسين,