أَمَّا الثَّالِثَةُ فَهِيَ أَشَدُّ مِنْهُمَا، وَسَأُخْبِرُكَ عَنْهَا، فَحَمَلْتُهُ إِلَى مَنْزِلِي عِنْدَ الظُّهْرِ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ مِنَ الْغَدِ نَادَانِي: يَا عَبْدَ اللَّهِ فَأَتَيْتُهُ، فَقُلْتُ: مَا شَأْنُكَ قَالَ: الْآنَ أُخْبِرُكَ عَنْ حَاجَتِي الثَّالِثَةِ، وَإِنِّي قَدِ احْتَضَرْتُ يَعْنِي قَدْ حَضَرَتْ وَفَاتِي، ثُمّ قَالَ: افْتَحْ صُرَّةً عَلَى كُمِّ جَيْبِي فَفَتَحْتُهَا فَإِذَا فِيهَا خَاتَمٌ لَهُ فَصٌّ أَخْضَرُ، فَقَالَ لِي: إِذَا أَنَا مُتِّ وَدَفَنْتَنِي فَخُذْ هَذَا الْخَاتَمَ وَادْفَعْهُ إِلَى هَارُونَ الرَّشِيدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَقُلْ لَهُ يَقُولُ لَكَ صَاحِبُ وَيْحَكَ هَذَا الْخَاتَمِ لَا تَمُوتَنَّ عَلَى سَكْرَتِكَ هَذِهِ، فَإِنَّكَ إِنْ مُتَّ عَلَى سَكْرَتِكَ نَدِمْتَ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا دَفَنْتُهُ سَأَلْتُ عَنْ يَوْمِ خُرُوجِ هَارُونَ الرَّشِيدِ، وَكَتَبْتُ لَهُ الْقِصَّةَ وَتَعَرَّضْتُ لَهُ فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهِ، وَتَأَذَّيْتُ أَذًى شَدِيدًا فَلَمَّا دَخَلَ الْقَصْرَ وَقَرَأَ الْقِصَّةَ قَالَ: عَلَيَّ بِصَاحِبِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ، فَأَخْرَجْتُ الْخَاتَمَ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى الْخَاتَمِ قَالَ: مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا، فَقُلْتُ: دَفَعَهُ إِلَيَّ رَجُلٌ طَيَّانُ وَنَظَرْتُ إِلَى دُمُوعِهِ تَتَحَدَّرُ مِنْ عَيْنَيْهِ عَلَى لِحْيَتِهِ، وَمِنْ لِحْيَتِهِ عَلَى ثِيَابِهِ وَيَقُولُ: طَيَّانٌ طَيَّانٌ وَقَرَّبَنِي مِنْهُ وَأَدْنَانِي، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ أَوْصَانِي أَيْضًا وَقَالَ: إِذَا أَوْصَلْتَ إِلَيْهِ الْخَاتَمَ قُلْ لَهُ: إِنَّهُ يُقْرِئُكَ صَاحِبُ هَذَا الْخَاتَمِ السَّلَامَ، وَيَقُولُ لَكَ لَا تَمُوتَنَّ عَلَى سَكْرَتِكَ هَذِهِ، فَإِنَّكَ إِنْ مُتَّ عَلَى سَكْرَتِكَ هَذِهِ نَدِمْتَ، فَقَامَ عَلَى رِجْلَيْهِ قَائِمًا، فَضَرَبَ بِنَفْسِهِ عَلَى الْبِسَاطِ، وَهُوَ يَتَقَلَّبُ بِرَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ وَيَقُولُ: يَا بُنَيَّ نَصَحْتَ أَبَاكَ حَيًّا وَمَيِّتًا فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: كَأَنَّهُ ابْنُهُ وَلَمْ أَشْعُرْ بِهِ، فَبَكَى بُكَاءً طَوِيلًا، ثُمَّ جَلَسَ وَجَاءُوا بِالْمَاءِ وَغَسَلَ وَجْهَهُ، ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ عَرَفْتَهُ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَبَكَى بُكَاءً شَدِيدًا طَوِيلًا، ثُمَّ قَالَ: كَانَ هَذَا أَوَّلَ مَوْلُودٍ وُلِدَ لِي، فَكَانَ أَبِي الْمَهْدِيُّ ذَكَرَ لِي أَنْ يُزَوِّجَنِي زُبَيْدَةَ، فَنَظَرْتُ يَوْمًا إِلَى امْرَأَةٍ فَعَلِقَ قَلْبِي بِهَا، فَتَزَوَّجْتُهَا سِرًّا مِنْ أَبِي وَأَوْلَدْتُهَا هَذَا الْوَلَدَ فَأَنْفَذْتُهُمْ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَدَفَعْتُ إِلَيْهِمَا هَذَا الْخَاتَمَ وَأَشْيَاءَ كَثِيرَةً وَقُلْتُ لَهَا: اكْتُمِي نَفْسَكِ فَإِذَا بَلَغَكِ أَنِّي قَدْ قَعَدْتُ لِلْخِلَافَةِ فَأْتِنِي، فَلَمَّا قَعَدْتُ لِلْخِلَافَةِ سَأَلْتُ عَنْهُمَا فَذُكِرَ لِي أَنَّهُمَا مَاتَا، وَلَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ بَاقٍ فَأَيْنَ دَفَنْتَهُ؟ فَقُلْتُ: دَفَنْتُهُ فِي مَقَابِرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute