للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولم يكن موقف أبى عبد الله خلال تلك اللحظات الحاسمة فى مصيره ومصير أمته، سوى موقف الأمير الضعيف المتخاذل، الذى يسعى إلى سلامة نفسه وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ذلك التراث العريض الذى أصبح وشيك الزوال، وهو موقف لم يكن بلا شك مشرفاً، ولا متفقاً مع مقتضيات البسالة والتضحية والشهامة.

أليس لنا بعد ذلك أن نحكم على آخر ملوك الأندلس؟ إن أبا عبد الله يحمل أمام الله والتاريخ تبعة لا ريب فيها. بيد أنه من الحق أيضاً أن نقول إنها ليست تبعة الخيانة المقصودة أو الجريمة العمد، بل هى تبعة "التفريط"، والتخاذل، والخطأ، وعدم التبصر فى العواقب.

على أن أبا عبد الله، مع ما يستحقه من لوم التاريخ وإدانته على النحو المتقدم، يستحق فى نظرنا تقديراً خاصاً، لما وفق إليه من الاحتفاظ بدينه ودين آبائه وأجداده. والواقع أن فداحة المحنة التى نزلت به، وظروف الإغراء التى كانت تحيط به، والتى حملت بعض أكابر الزعماء والقادة المسلمين على التنصر، حسبما نوضح بعد، وسعى الملكين الكاثوليكيين المتعصبين إلى تنصير من يمكن تنصيره من الزعماء المسلمين بكل الوسائل: هذه الظروف كلها كانت خليقة بأن تحمل أبى عبد الله على الاستجابة إلى دواعى التحريض والإغراء فتزل قدمه إلى الدرك السحيق الذى انحدر إليه بعض قادته ووزرائه، ولكنه استطاع أن يخرج من هذه الغمار معتصما بدينه المتين، وهو ما يشير إليه بحرارة فى دفاعه المتقدم.

...

استقر أبو عبد الله بعد جوازه إلى فاس فى ظل بنى وَطَّاس، وشيد بها قصوراً على طراز الأندلس، رآها وتجول فيها المقرى مؤرخ الأندلس بعد ذلك بنحو قرن وربع (١٠٢٧ هـ - ١٦١٨ م) (١). ويروى أنه لما نزل أبو عبد الله وصحبه مدينة فاس، أصابت الناس بها شدة عظيمة من الجوع والغلاء والوباء، حتى غادرها كثير من أهلها، ورجع بعض الأندلسيين إلى بلادهم، وتقاعس كثير منهم عن الجواز إلى المغرب خوف الشدة والفاقة (٢). وعاش الملك المخلوع فى منفاه طويلا يجرع كأسه المرة حتى الثمالة، ويتقلب فى غمر الحسرات والذكريات المفجعة، ويشهد خلال هذه الفترة المؤلمة، جهود السياسة الإسبانية فى سحق


(١) نفح الطيب ج ٢ ص ٦١٧.
(٢) أزهار الرياض ج ١ ص ٦٨

<<  <  ج: ص:  >  >>