تقول الرواية المذكورة، إنه حينما اجتمع الزعماء فى بهو الحمراء الكبير، ليوقعوا عهد التسليم، وليحكموا على دولتهم بالذهاب، وعلى أمتهم بالفناء والمحو، عندئذ لم يملك كثير منهم نفسه من البكاء والعويل. ولكن موسى لبث وحده صامتاً عابساً وقال:"أتركوا العويل للنساء والأطفال، فنحن رجال لنا قلوب لم تخلق لإرسال الدمع ولكن لتقطر الدماء، وإنى لأرى روح الشعب قد خبت حتى ليستحيل علينا أن ننقذ غرناطة، ولكن ما زال ثمة بديل للنفوس النبيلة. ذلك هو موت مجيد، فلنمت دفاعاً عن حرياتنا وانتقاماً لمصائب غرناطة، وسوف تحتضن أمنا الغبراء أبناءها أحراراً من أغلال الفاتح وعسفه، ولئن لم يظفر أحدنا بقبر يستر رفاته، فإنه لن يعدم سماء تغطيه، وحاشا الله أن يقال إن أشراف غرناطة خافوا أن يموتوا دفاعاً عنها"(١).
ثم صمت موسى، وساد المجلس سكون الموت، وسرح أبو عبد الله البصر حوله، فإذا اليأس ماثل فى تلك الوجوه التى أضناها الألم، وإذا كل عزم قد غاض فى تلك القلوب الكسيرة الدامية. عندئذ صاح " الله أكبر لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ولا راد لقضاء الله. تالله لقد كتب علىّ أن أكون شقياً، وأن يذهب الملك على يدى". وصاحت الجماعة على أثره " الله أكبر ولا راد لقضاء الله"، وكرروا جميعاً أنها إرادة الله ولتكن، وأنه لا مفر من قضائه ولا مهرب، وأن شروط ملك النصارى أفضل ما يمكن الحصول عليه. فلما رأى موسى أن اعتراضه عبث لا يجدى وأن الجماعة قد أخذت فعلا فى توقيع صك التسليم، نهض مغضباً وصاح:"لا تخدعوا أنفسكم، ولا تظنوا أن النصارى سيوفون بعهدهم، ولا تركنوا إلى شهامة ملكهم. إن الموت أقل ما نخشى، فأمامنا نهب مدننا وتدميرها، وتدنيس مساجدنا، وتخريب بيوتنا، وهتك نسائنا وبناتنا، وأمامنا الجور الفاحش، والتعصب الوحشى، والسياط والأغلال، وأمامنا السجون والأنطاع والمحارق. هذا ما سوف نعانى من مصائب وعسف، وهذا ما سوف تراه على الأقل تلك النفوس الوضيعة، التى تخشى الآن الموت الشريف. أما أنا فوالله لن أراه". ثم غادر المجلس واخترق بهو الأسود (كورة السباع) عابساً حزيناً، وجاز إلى أبهاء الحمراء الخارجية، دون أن يرمق أحداً أو يفوه بكلمة، ثم ذهب إلى داره وغطى نفسه بسلاحه، واقتعد غارب جواده المحبوب، واخترق