الإمتيازات والمنح التى منحت لآخر ملوك الأندلس. فأما فيما يتعلق بغرناطة ومصاير الأمة المغلوبة، فقد كانت هذه الشروط المسهبة، والتى اشتملت على سائر الضمانات المتعلقة بتأمين النفس والمال، وسائر الحقوق المادية، وصون الدين والشعائر، والكرامة الشخصية، أفضل ما يمكن الحصول عليه فى مثل هذه المحنة، لو أخلص العدو الظافر فى عهوده. ولكن هذه العهود لم تكن فى الواقع، حسبما أيدت الحوادث فيما بعد، سوى ستار الغدر والخيانة، وقد نقضت هذه الشروط الخلابة كلها لأعوام قلائل من تسليم غرناطة، ولم يتردد المؤرخ الغربى نفسه فى أن يصفها " بأنها أفضل مادة لتقدير مدى الغدر الإسبانى فيما تلا من العصور"(١). وقد بذل فرناندو ما بذل من عهود وضمانات وامتيازات لأهل غرناطة، بعد ما لقيت جيوشه من الصعاب، وما منيت به من الخسائر الفادحة، أمام أسوار مالقة وبسطة، ولأنه كان يعلم أن الحاضرة الأندلسية الأخيرة، تموج بعشرات الألوف من المدافعين، وأنه يقتضى لأخذها عنوة بذل جهود مضنية، وتحمّل تضحيات عظيمة، وقد لجأ فرناندو، إلى جانب إرهاق غرناطة بالحصار الصارم، إلى البذل والرشوة لإغراء الزعماء والقادة، وعلى رأسهم أبو عبد الله، وذلك لكى يصل إلى تحقيق غايته المنشودة بطريق سلمية مأمونة، وجاءت نصوص المعاهدة السرية مؤيدة لما أشارت إليه الرواية الإسلامية المعاصرة، من ريب وشكوك تحيط بموقف أبى عبد الله ووزرائه وقادته.
وعاد أبو القاسم عبد الملك والوزير ابن كماشة يحملان شروط التسليم، وصحبهما فرناندو دى ثافرا أمين ملك قشتالة ومبعوثه، وأدخل سراً إلى قصر الحمراء، وجمع أبو عبد الله الفقهاء وأكابر الجماعة فى بهو الحمراء الكبير (بهو قمارش)، وبعد مناقشات طويلة عاصفة، تمت الموافقة على المعاهدة، وحملها دى ثافرا ممهورة بتوقيع أبى عبد الله إلى معسكر ملك قشتالة.
وقد انتهت إلينا عن هذه الجلسة الحاسمة فى تاريخ الأمة الأندلسية، وعن موقف فارس غرناطة موسى بن أبى الغسان، رواية قشتالية مؤثرة، قد تصطبغ بلون الأسطورة، ومع ذلك فإنها تنم عن روح الانتقاض والسخط، التى كانت تضطرم بها بعض النفوس الأبية الكريمة التى كانت ترى الموت خيراً من التسليم لأعداء الوطن والدين.