للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واتفق الجميع على وجوب التسليم (١). ولم يرتفع بالاعتراض سوى صوت واحد هو صوت موسى بن أبى غسان، فقد حاول كعادته أن يبث بكلماته الملتهبة قبساً أخيراً من الحماسة؛ وكان مما قال: "لم تنضب كل مواردنا بعد، فما زال لنا مورد هائل للقوة كثيراً ما أدى المعجزات: ذلك هو يأسنا، فلنعمل على إثارة الشعب، ولنضع السلاح فى يده، ولنقاتل العدو حتى آخر نسمة، وإنه لخير لى أن أحصى بين الذين ماتوا دفاعاً عن غرناطة، من أن أحصى بين الذين شهدوا تسليمها".

على أن كلماته لم تؤثر فى هذه المرة، فقد كان يخاطب رجالا نضب الأمل فى قلوبهم، وغاضت كل حماسة، ووصلوا إلى حالة من اليأس لا تنجع فيها البطولة، ولا يحسب للأبطال حساب، بل يعلو نصح الشيوخ ويغلب. وهكذا حدث فإن السلطان أبو عبد الله فوض الأمر للجماعة، واتفق الجماعة من خاصة وعامة على مفاوضة ملك قشتالة فى التسليم، واختير الوزير القائد أبو القاسم عبد الملك للقيام بتلك المهمة؛ وكان ذلك فى أكتوبر سنة ١٤٩١ م (أواخر سنة ٨٩٦ هـ).

وهنا يسدل الستار على تلك المناظر الرائعة المؤثرة، التى تقدمها الرواية لنا عن بسالة المسلمين فى الدفاع عن مدينتهم، وعلى ذلك الموقف الباهر الذى اتخذه أبو عبد الله مدى حين، واتشح فيه بثوب البطل المدافع عن ملكه وأمته ودينه، وتبرز لنا طائفة من الحقائق المؤلمة التى تضم أولئك الزعماء والقادة، الذين جنحوا فى النهاية إلى المساومة بحقوق أمتهم، واستغلالها لمآربهم الخاصة.

يقول لنا صاحب أخبار العصر، إن كثيراً من الناس زعموا أن أمير غرناطة ووزيره وقواده كان قد تقدم الكلام بينهم وبين ملك قشتالة سراً فى تسليم غرناطة ولم يجرأوا على المجاهرة بعزمهم خشية انتقاض الشعب، وأنهم لبثوا حينا يلاطفون الشعب ويملقونه، حتى ألفوا السبيل ممهداً للعمل برضاء الشعب وموافقته، ويستشهد أصحاب هذه الرواية بما حدث من انقطاع المعارك بين المسلمين والنصارى حيناً قبل بدء المفاوضة فى التسليم. وتزيد الرواية على ذلك بأن القواد المسلمين الذين اضطلعوا بهذه المفاوضة تلقوا تحفاً وأموالا جزيلة من ملك قشتالة (٢).

وقد كنا نميل فى البداية إلى الارتياب فى صحة هذه الرواية وتأبى أن نعتقد


(١) أخبار العصر ص ٤٨ و ٤٩؛ ونفح الطيب ج ٢ ص ٦١٥.
(٢) أخبار العصر ص ٤٨ و ٤٩؛ ونفح الطيب ج ٢ ص ٦١٥

<<  <  ج: ص:  >  >>