وكان يرمي بهذا الطواف إلى الاتصال بالقبائل المنضوية تحت لواء التوحيد، فاجتمع خلال طوافه بأبناء جدميوة، ومصمودة، وجنفيسة، ورجراجة، وحاحة، كل قبيلة منهم في مكانها، وأمر بأن تلقي عليهم المواعظ والتعريف بمقاصد التوحيد، تذكيراً لهم، وتوطيداً لعقائدهم، وفرق فيهم الصلات. ثم وفد عليه جملة من قبائل جزولة، طالبين الأمان، ومؤكدين ولاءهم وإيمانهم، وصادق توبتهم، فحذروا من العود إلى الخلاف، وما يترتب على ذلك من الهلكة، وشملهم العفو والرحمة. وسار الخليفة بعد ذلك إلى تارودانت واجتمع فيها بقبائل السوس، فأكدوا له عهد الولاء والطاعة، وشملتهم رعايته ومننه. ولما وصل إلي آنسا، وهي طرف بلاد السوس، اجتمعت حوله قبائل تينملل وهنتانة، فنالهم ما نال اخوانهم من أسباب الخير والبركة. وكان فصل الخريف قد انصرم يومئذ، وأقبل الشتاء، فسار عبد المؤمن إلى تينملل ليختتم جولته بزيارة قبر المهدي مرة أخرى، وقصد إليها، " والنفوس قد حفزها الشوق إلى مقامه، وسارع بها الحرص إلى معالمه المقدسة وأعلامه "، وذلك حسبما يقول لنا في رسالته المستفيضة التي أمر بكتبها عن رحلته. وهنالك تقاطرت عليه وفود القبائل من سائر تلك الأقطار، وازدحمت بهم الوديان والربى، وشملوا جميعاً بالرعاية والإكرام، " وأفهموا في أثناء ذلك من مقاصد الحق المبين، وعقائد الدين المتين، ما شرح صدورهم، وضاعف سرورهم "، وتأكد ولاؤهم، وتمسكهم بدعوة التوحيد.
وانتهت رحلة الخليفة، بعد أن تحققت مقاصدها، في العمل على إحياء الدعوة الموحدية في مهادها، وتذكير مختلف القبائل بما يجب عليهم نحوها من الولاء والإخلاص، وتحذيرهم من عواقب الخروج والردة، وتنقية النفوس من الشوائب.
وعاد عبد المؤمن إلى مراكش في أواخر رمضان سنة ٥٥٢ هـ، وصدرت عن رحلته بتاريخ الثامن من شوال رسالة مستفيضة، من إنشاء كاتبه أبى عقيل بن عطية، أخى الوزير أبى جعفر، وهي رسالة ممتعة كتبت بأسلوب بليغ مشرق (١).
وكان هذا العام - ٥٥٢ هـ - عام الأحداث المباركة، فكان بعد الحج إلى تينملل، أن أحضر المصحف العثماني من قرطبة إلى مراكش، تحقيقاً لرغبة الخليفة عبد المؤمن. وكان هذا المصحف أحد المصاحف الأربعة المشهورة التي
(١) راجع هذه الرسالة ضمن مجموعة الرسائل الموحدية، وهي الرسالة السابعة عشرة (ص ٨١ - ٩٢).