للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأومأ إليه الناصر أن يقعد بقربه، فقال له: يا أمير المؤمنين، إنّما يقعد الرجل حيث انتهى به المجلس، ولا يتخطّى الرقاب، فجلس في آخر الناس وعليه ثياب رثّة، ثم ذكر هذا القائل بعد هذا كلاماً من كلام المنذر يأتي قريباً.

وقحط الناس (١) آخر مدة الناصر، فأمر القاضي منذر المذكور بالبروز إلى الاستسقاء بالناس، فتأهّب لذلك، وصام بين يديه أياماً ثلاثة تنفلاً وإنابة ورهبة، واجتمع له الناس في مصلّى الرّبض بقرطبة بارزين إلى الله تعالى في جمع عظيم، وصعد الخليفة الناصر في أعلى مصانعه المرتفعة من القصر ليشارف الناس، ويشاركهم في الخروج إلى الله تعالى والضّراعة له، فأبطأ القاضي حتى اجتمع الناس وغصت بهم ساحة المصلّى، ثم خرج نحوهم ماشياً متضرّعاً مخبتاً متخشّعاً، وقام ليخطب، فلمّا رأى بدار (٢) الناس إلى ارتقائه، واستكانتهم من خيفة الله، وإخباتهم له، وابتهالهم إليه - رقّت نفسه، وغلبته عيناه، فاستعبر وبكى حيناً، ثم افتتح خطبته بأن قال: يا أيّها الناس، سلام عليكم، ثم سكت ووقف شبه الحصر، ولم يك من عادته، فنظر الناس بعضهم إلى بعض لا يدرون ما عراه ولا ما أراد بقوله، ثم اندفع تالياً قوله تعالى " كتب ربّكم على نفسه الرّحمة، إلى قوله: رحيم " ثم قال: استغفروا ربّكم إنّه كان غفّاراً، استغفروا ربكم ثمّ توبوا إليه، وتزلّفوا بالأعمال الصالحة لديه، قال الحاكي: فضج الناس بالبكاء، وجأروا بالدعاء، ومضى على تمام خطبته، ففزّع النفوس بوعظه، وانبعث الإخلاص بتذكيره، فلم ينقض النهار حتى أرسل الله السماء بماء منهمر، روّى الثرى، وطرد المحل وسكّن الأزل، والله لطيف بعباده. وكان لمنذر في خطب الاستسقاء استفتاح عجيب، ومنه أن قال يوماً - وقد سرح طرفه في ملإ الناس عندما شخصوا


(١) عاد النقل عن المطمح، وانظر كذلك المرقبة العليا وأزهار الرياض.
(٢) ج: تبادر.

<<  <  ج: ص:  >  >>