للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

نذيرُ الشيب

الموت مصير لابد منه، ومآل سيؤول إليه كل حي، وهو أجلٌ معلوم لا يدري المخلوق متى يلاقيه. ولما كان الممات ميعاداً ينقطع بلقياه الأمل، وتنتهي بنزوله مهلةُ العمل، ويكثر عنده ندم المفرّطين، لانتقالهم به من دار التكليف إلى دار الحساب؛ فقد رحم اللهُ تعالى خلقه بإرساله رسلاً تنذرهم بقرب المنية؛ حتى يجدّ المبطئ، ويتوب المسرف المفرِّط، وينتبه الغافل، ويصحو اللاهي. فمن تلك النذر بقدوم الموت: الشّيب الذي يسلُّ حسام موعظته ببريقه على سواد الشعور، ويزجر صاحبها ببياضه عن الفتور والقصور.

فـ" من نزل به الشيب فهو بمنزلة الحامل التي تمت شهور حملها، فما تنتظر إلا الولادة، كذلك صاحب الشيب لا ينتظر إلا الموت، فقبيحٌ منه الإصرار على الذنب.

أيُّ شيءٍ تريدُ مني الذنوبُ … شَغُفتْ بي فليس عني تغيبُ

ما يضرُّ الذنوبَ لو أعتقتني … رحمةً بي فقد علاني المشيبُ (١).

إن الشيب ضياء يلمع في قافية ليل الحياة بعد أن قطع ذلك الليلُ مسيرةً طويلة أوشك بعدها على الذهاب والانتهاء، فقدّمَ بين يديه طليعةً للإخبار بقرب رحيل صاحبه عن الدنيا، فمن أصغى لخبر النذير استعد له وأخذ للأمر أُهبته، ومن لم يسمع نصيحته فاجأه جيشُ المنية فأنزل به ما يكره من النكال.

ولا ريب أن الإنسان في الحياة الدنيا لا يبقى على قوته وقدرته، بل يدركه العجز والضعف، وينتقل من تمامه إلى نقصانه، ومن سعة زمانه إلى ضيق أوانه، ومن حياته إلى


(١) لطائف المعارف، لابن رجب (ص: ٣٧٠).

<<  <   >  >>