° ومن الطبيعي أن تتوقَّفَ التأثيراتُ العربيةُ الجنوبيةُ بالهجرة (إلى المدينة)، ومِن هذه اللحظة فصاعدًا فَقَدَ "جريمه" أيضًا كلَّ اهتمامٍ بالتطوُّرِ الديني لمحمد، فكلُّ شيءٍ بعدَ ذلك يُعَدُّ بالنسبةِ "لجريمه"، مناورةً سياسيةً لدجَّالٍ امتَهَن الدينَ من أجل غاياتٍ دنيوية، وقد كان هذا الرأيُ عن محمدٍ رأيًا عامًّا شائعًا في السابق، ولا يزالُ الآنَ أيضًا قويَّ الانتشار، ولكنَّ محمدًا لم يكن يَجعلُ هناك أبدًا فارقًا بين الأمور الدينيةِ والأمورِ السياسية، فهو يريدُ الإنسانَ كلَّه، والارتباطُ السياسيُّ هو النتيجةُ البديهيةُ تمامًا للتحوُّل إلى الإسلام، والرعايةُ السياسيةُ لأتباعه تُعَدُّ جانبًا أساسيًّا لنبوَّته، وأيضًا فإنَّ ضَمَّ الكعبةِ إلى دائرةِ نظرتِه أو تأمُّلِه لا يُعَدُّ مناورةً سياسيةً، بل يُعَدُّ تطوُّرًا دينيًّا داخليًّا.
° وفي مقالٍ خاصٍّ نُشر في "مجلة الشرق" الشهرية النمساوية عَرض "جريمه" مرةً أخرى "أصول دين محمد" باختصار، فبجانبِ اليهوديةِ والمسيحيةِ كان هناك دين قائم في الجنوبِ العربي هو "دين الرحمانان"، بِناءً على شهاداتِ النقوش السبئية.
ويحاولُ "جريمه" أن يَصِفَ هذا الدينَ من واقع النفوشِ وصفًا دقيقًا، وأن يُبيّنَ صِلَتَه الوثيقةَ بدينِ محمد، ونتيجةً لبحوثه يُقرِّرُ "جريمه" أن الإسلامَ "لم يكن شيئًا وُلد في رأسِ محمدٍ ثمرةً لتأمُّل أصيل دون أيِّ تأثير من العالَم المحيطِ به، بل كان في بداياتِه الأولى كما كان في استمرارِ تطوُّره -طالمَا كان هذا التطوُّرُ يَحدُثُ على أرضِ مكة- متشابكًا تشابُكًا وثيقًا مع "دين الرحمانين" الجنوبي العربي".