للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَنْ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»

() فَأَمَرَ بِتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ أَوْ اللِّسَانِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَغْيِيرَ الْمُنْكَرِ هُوَ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُنْكَرًا وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِإِزَالَةِ صُورَتِهِ وَصِفَتِهِ بِتَحْرِيكِهِ مِنْ حَيِّزٍ إلَى حَيِّزٍ، فَتَغْيِيرُ الْخَمْرِ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ نَقْلِهَا مِنْ حَيِّزٍ إلَى حَيِّزٍ، بَلْ بِإِرَاقَتِهَا أَوْ إفْسَادِهَا مِمَّا فِيهِ اسْتِحَالَةُ صُورَتِهَا وَذَلِكَ مَنْ رَأَى مَنْ يَقْتُلُ غَيْرَهُ لَمْ يَكُنْ تَغْيِيرُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ النَّقْلِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ زَوَالُ صُورَةِ الْقَتْلِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ زَوَالِ صُورَةِ الْقِتَالِ وَكَذَلِكَ الزَّانِيَانِ وَكَذَلِكَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْبِدْعَةِ وَالدَّاعِي لَيْسَ تَغْيِيرُ هَذَا الْمُنْكَرِ بِمُجَرَّدِ التَّحْوِيلِ مِنْ حَيِّزٍ إلَى حَيِّزٍ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ

قَدْ أَمَرَ بِتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ قَطُّ بِمُجَرَّدِ النَّقْلِ فِي الْأَحْيَازِ وَالْجِهَاتِ إذْ الْأَحْيَازُ وَالْجِهَاتُ مُتَسَاوِيَةٌ فَهُوَ مُنْكَرٌ هُنَا كَمَا أَنَّهُ مُنْكَرٌ هُنَاكَ عُلِمَ أَنَّ هَذَا لَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى التَّغْيِيرِ بَلْ لَا بُدَّ فِي التَّغْيِيرِ مِنْ إزَالَةِ صُورَةٍ مَوْجُودَةٍ وَإِنَّ ذَاكَ قَدْ يَحْصُلُ بِالنَّقْلِ لَكِنَّ الْعَرْضَ أَنَّ مُجَرَّدَ الْحَرَكَةِ كَحَرَكَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ لَا يُسَمَّى تَغَيُّرًا بِخِلَافِ مَا يَعْرِضُ لِلْجَسَدِ مِنْ الْخَوْفِ وَالْمَرَضِ وَالْجُوعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُغَيِّرُ صِفَتَهُ.

قُلْت وَفِي هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَدٌّ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ الْمُخْتَلِفَتَيْنِ فِي مَعْنَى قَوْلِ أَحْمَدَ وَسَائِرِ السَّلَفِ فِي مَعْنَى أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ هَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ قَدِيمٌ لَازِمٌ لِذَاتِهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَشِيئَةِ وَالْقُدْرَةِ كَالْعِلْمِ أَوْ الْمُرَادِ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مُتَكَلِّمًا كَمَا يُقَالُ لَمْ يَزَلْ خَالِقًا، وَقَدْ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ عَنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ فِي كِتَابِ الْمُقْنِعِ، وَذَكَرَهُ عَنْهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي كِتَابِ الْبَيَانِ فِي الْقُرْآنِ مَعَ أَنَّ الْقَاضِيَ وَأَتْبَاعَهُ يَقُولُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَيَتَأَوَّلُونَ كَلَامَ أَحْمَدَ الْمُخَالِفَ لِذَلِكَ عَلَى الْأَسْمَاعِ وَنَحْوِهِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الَّتِي وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ بِهَا بَيْنَ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ خُزَيْمَةَ وَبَعْضِ أَصْحَابِهِ.

وَكَلَامُ أَحْمَدَ وَالْأَئِمَّةُ لَيْسَ هُوَ قَوْلَ هَؤُلَاءِ وَلَا قَوْلَ هَؤُلَاءِ، بَلْ فِيهِ مَا أَثْبَتَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ الْحَقِّ وَمَا أَثْبَتَهُ هَؤُلَاءِ مِنْ الْحَقِّ وَكُلٌّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ أَثْبَتُ مِنْ الْحَقِّ مَا أَثْبَتَهُ فَإِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ قَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ وَإِذَا نَظَرَ ذَلِكَ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالنُّورِ فَلَيْسَ كَالْمَخْلُوقَاتِ الْبَايِنَةِ عَنْهُ، لِأَنَّ الْكَلَامَ مِنْ صِفَاتِهِ وَلَيْسَ كَالصِّفَةِ الْقَائِمَةِ بِهِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ

<<  <  ج: ص:  >  >>