للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بعث عبادة بن الصامت إلى الصدقة اتق الله يا أبا الوليد لا تجيء يوم القيامة ببعير تحمله على رقبتك له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة لها تؤاج فقال يا رسول الله أهكذا يكون قال نعم والذي نفسي بيده إلا من رحم الله

قال فوالذي بعثك بالحق لا أعمل على شيء أبداً (١)

وقال صلى الله عليه وسلم إني لا أخاف عليكم أن تشركوا بعدي إنما أخاف عليكم أن تنافسوا (٢)

وإنما خاف التنافس في المآل

ولذلك قال عمر رضي الله عنه في حديث طويل يذكر فيه مال بيت المال إني لم أجد نفسي فيه إلا كالوالى مال اليتيم إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف

وروي أن ابناً لطاوس افتعل كتاباً عن لسانه إلى عمر بن عبد العزيز فأعطاه ثلثمائة دينار فباع طاوس ضيعة له وبعث من ثمنها إلى عمر بثلثمائة دينار هذا مع أن السلطان ليس مثل عمر بن عبد العزيز

فهذه الدرجة العليا في الورع

الدرجة الثانية هو أن يأخذ مال السلطان ولكن إنما يأخذ إذا علم أن ما يأخذه من جهة حلال فاشتمال يد السلطان على حرام آخر لا يضره وعلى هذا ينزل جميع ما نقل من الآثار أو أكثرها أو ما اختص منها بأكابر الصحابة والورعين منهم مثل ابن عمر فإنه كان من المبالغين في الورع فكيف يتوسع في مال السلطان وقد كان من أشدهم إنكاراً عليهم وأشدهم ذماً لأموالهم وذلك أنهم اجتمعوا عند ابن عامر وهو في مرضه وأشفق على نفسه من ولايته وكونه مأخوذاً عند الله تعالى بها فقالوا له إنا لنرجو لك الخير حفرت الآبار وسقيت الحاج وصنعت وصنعت وابن عمر ساكت فقال ماذا تقول يا ابن عمر فقال أقول ذلك إذا طاب المكسب وزكت النفقة وسترد فترى

وفي حديث آخر أنه قال إن الخبيث لا يكفر الخبيث وإنك قد وليت البصرة ولا أحسبك إلا قد أصبت منها شراً

فقال له ابن عامر ألا تدعو لي فقال ابن عمر سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لا يقبل الله صلاة بغير طهورا ولا صدقة من غلول (٣)

وقد وليت البصرة فهذا قوله فيما صرفه إلى الخيرات

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال في أيام الحجاج ما شبعت من الطعام منذ انتهبت الدار إلى يومي هذا وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان له سويق في إناء مختوم يشرب منه فقيل أتفعل هذا بالعراق مع كثرة طعامه فقال أما إني لا أختمه بخلابه ولكن أكره أن يجعل فيه ما ليس منه وأكره أن يدخل بطني غير طيب فهذا هو المألوف منهم وكان ابن عمر لا يعجبه شيء إلا خرج عنه فطلب منه نافع بثلاثين ألفاً فقال إني أخاف أن تقتنى دراهم ابن عامر وكان هو الطالب اذهب فأنت حر

وقال أبو سعيد الخدري ما منا أحد إلا مالت به الدنيا إلا ابن عمر فبهذا يتضح أنه لا يظن به وبمن كان في منصبه أنه أخذ مالاً يدري أنه حلال

الدرجة الثالثة أن يأخذ ما أخذه من السلطان ليتصدق به على الفقراء أو يفرقه على المستحقين فإن ما لا يتعين مالكه هذا حكم الشرع فيه

فإذا كان السلطان إن لم يأخذ منه لم يفرقه واستعان به على ظلم فقد نقول أخذه منه وتفرقته أولى من تركه في يده وهذا قد رآه بعض العلماء وسيأتي وجهه

وعلى هذا ينزل ما أخذه أكثرهم ولذلك قال ابن المبارك إن الذين يأخذون الجوائز اليوم ويحتجون بابن عمر وعائشة ما يقتدون بهما لأن ابن عمر فرق ما أخذ حتى استقرض في مجلسه بعد تفرقته ستين ألفاً وعائشة فعلت مثل ذلك وجابر بن زيد جاءه مال فتصدق به وقال رأيت أن آخذه منهم وأتصدق أحب إلي من أن أدعها في أيديهم وهكذا فعل الشافعي رحمه الله بما قبله


(١) حديث قيل العبادة بن الصامت حين بعثه إلى الصدقة اتق الله يا أبا الوليد لا تجيء يوم القيامة ببعير تحمله على رقبتك الحديث أخرجه الشافعي في المسند من حديث طاوس مرسلا ولأبي يعلى في المعجم من حديث ابن عمر مختصرا انه قاله لسعد بن عبادة وإسناده صحيح
(٢) حديث إني لا أخاف عليكم أن تشركوا بعدي إنما أخاف عليكم أن تنافسوا متفق عليه من حديث عقبة بن عامر
(٣) حديث لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول أخرجه مسلم من حديث ابن عمر

<<  <  ج: ص:  >  >>