للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلبه فإن حاك في صدره شيء فهو الآثم بينه وبين الله فلا ينجيه في الآخرة فتوى المفتي فإنه يفتي بالظاهر والله يتولى السرائر

القسم الثالث أن يختلط حَرَامٌ لَا يُحْصَرُ بِحَلَالٍ لَا يُحْصَرُ كَحُكْمِ الأموال في زماننا هذا فالذي يأخذ الأحكام من الصور قد يظن أن نسبة غير المحصور إلى غير المحصور كنسبة المحصور إلى المحصور وقد حكمنا ثم بالتحريم فلنحكم هنا به والذي نختاره خلاف ذلك وهو أنه لَا يَحْرُمُ بِهَذَا الِاخْتِلَاطِ أَنْ يُتَنَاوَلَ شَيْءٌ بِعَيْنِهِ احْتَمَلَ أَنَّهُ حَرَامٌ وَأَنَّهُ حَلَالٌ إِلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِتِلْكَ الْعَيْنِ عَلَامَةٌ تَدُلُّ عَلَى أنه من الحرام فإن لم يكن في الْعَيْنِ عَلَامَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْحَرَامِ فتركه ورع وأخذه حلال لا يفسق به آكله

ومن العلامات أن يأخذه من يد سلطان ظالم إلى غير ذلك من العلامات التي سيأتي ذكرها ويدل عليه الأثر والقياس فأما الأثر

فما علم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بعده إذ كانت أثمان الخمور ودراهم الربا من أيدي أهل الذمة مختلطة بالأموال وكذا غلول الأموال وكذا غلول الغنيمة ومن الوقت الذي نهى صلى الله عليه وسلم عن الربا إذ قال أول ربا أضعه ربا العباس (١)

ما ترك الناس الربا بأجمعهم كما لم يتركوا شرب الخمور وسائر المعاصي حتى روي أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم باع الخمر فقال عمر رضي الله عنه

لعن الله فلاناهو أول من سن بيع الخمر إذ لم يكن قد فهم أن تحريم الخمر تحريم لثمنها

وقال صلى الله عليه وسلم إن فلاناً يجر في النار عباءة قد غلها (٢)

وقتل رجل ففتشوا متاعه فوجدوا فيه خرزات من خرز اليهود لا تساوي درهمين قد غلها (٣)

وكذلك أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمراء الظلمة ولم يمتنع أحد منهم عن الشراء والبيع في السوق بسبب نهب المدينة وقد نهبها أصحاب يزيد ثلاثة أيام وكان من يمتنع من تلك الأموال مشاراً إليه في الورع والأكثرون لم يمتنعوا مع الاخلاط وكثرة الأموال المنهوبة في أيام الظلمة

ومن أوجب ما لم يوجبه السلف الصالح وزعم أنه تفطن من الشر ما لم يتفطنوا له فهو موسوس مختل العقل ولو جاز أن يزاد عليهم في أمثال هذا لجاز مخالفتهم في مسائل لا مستند فيها سوى اتفاقهم كقولهم إن الجدة كالأم في التحريم وابن الابن كالابن وشعر الخنزير وشحمه كاللحم المذكور تحريمه في القرآن والربا جار فيما عدا الأشياء الستة وذلك محال فإنهم أولى بفهم الشرع من غيرهم وأما القياس فهو أنه لو فتح هذا الباب لانسد باب جميع التصرفات وخرب العالم إذ الفسق يغلب على الناس ويتساهلون بسببه في شروط الشرع في العقود ويؤدي ذلك لا محالة إلى الاختلاط

فإن قيل قد نقلتم أنه صلى الله عليه وسلم امتنع من الضب وقال أخشى أن يكون مما مسخه الله وهو في اختلاط غير المحصور قلنا يحمل ذلك على التنزه والورع أو نقول الضب شكل غريب ربما يدل على أنه من المسخ فهي دلالة في عين المتناول

فإن قيل هذا معلوم فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وزمان الصحابة بسبب الربا والسرقة والنهب وغلوك الغنيمة وغيرها ولكن كانت هي الأقل بالإضافة إلى الحلال فما تقول في زماننا وقد صار الحرام أكثر ما في أيدي الناس لفساد المعاملات وإهمال شروطها وكثرة الربا وأموال السلاطين الظلمة فمن أخذ مالاً لم يشهد


(١) حديث أول ربا أضعه ربا العباس أخرجه مسلم من حديث جابر
(٢) حديث إن فلانا في النار يجر عباءة قد غلها رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمر وتقدم قبله بثلاثة أحاديث
(٣) حديث قتل رجل ففتشوا متاعه فوجدوا فيه خرزا من خرز اليهود لا يساوي درهمين قد غله رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث زيد بن خالد الجهني

<<  <  ج: ص:  >  >>