للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إِلَيْهِ لَا أَتَمَنَّى غَيْرَ رِضَاهُ. وَلَا أَتَخَيَّرُ عَلَيْهِ إِلَّا مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ. وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

فَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ كَلَامِهِ. قَالَ:

الثَّانِي: سُقُوطُ الْخُصُومَةِ عَنِ الْخَلْقِ.

يَعْنِي أَنَّ الرِّضَا إِنَّمَا يَصِحُّ بِسُقُوطِ الْخُصُومَةِ مَعَ الْخَلْقِ. فَإِنَّ الْخُصُومَةَ تُنَافِي حَالَ الرِّضَا. وَتُنَافِي نِسْبَةَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا إِلَى مَنْ بِيَدِهِ أَزِمَّةُ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ. فَفِي الْخُصُومَةِ آفَاتٌ.

أَحَدُهَا: الْمُنَازَعَةُ الَّتِي تُضَادُّ الرِّضَا.

الثَّانِي: نَقْصُ التَّوْحِيدِ بِنِسْبَةِ مَا يُخَاصَمُ فِيهِ إِلَى عَبْدٍ دُونَ الْخَالِقِ لِكُلِّ شَيْءٍ.

الثَّالِثُ: نِسْيَانُ الْمُوجِبِ وَالسَّبَبِ الَّذِي جَرَّ إِلَى الْخُصُومَةِ. فَلَوْ رَجَعَ الْعَبْدُ إِلَى السَّبَبِ وَالْمُوجِبِ لَكَانَ اشْتِغَالُهُ بِدَفْعِهِ أَجْدَى عَلَيْهِ، وَأَنْفَعَ لَهُ مِنْ خُصُومَةِ مَنْ جَرَى عَلَى يَدَيْهِ. فَإِنَّهُ - وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا - فَهُوَ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِظُلْمِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: ١٦٥] فَأَخْبَرَ عَنْ أَذَى عَدُوِّهِمْ لَهُمْ، وَغَلَبَتِهِمْ لَهُمْ: إِنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: ٣٠] .

فَإِذَا اجْتَمَعَتْ بَصِيرَةُ الْعَبْدِ عَلَى مَشَاهِدِ الْقَدَرِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ: انْسَدَّ عَنْهُ بَابُ خُصُومَةِ الْخَلْقِ، إِلَّا فِيمَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. فَالرَّاضِي لَا يُخَاصِمُ وَلَا يُعَاتِبُ إِلَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ اللَّهِ. وَهَذِهِ كَانَتْ حَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُخَاصِمُ أَحَدًا وَلَا يُعَاتِبُهُ إِلَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِحَقِّ اللَّهِ. كَمَا أَنَّهُ كَانَ لَا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ. فَإِذَا انْتُهِكَتْ مَحَارِمُ اللَّهِ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَقِمَ لِلَّهِ. فَالْمُخَاصَمَةُ لِحَظِّ النَّفْسِ تُطْفِئُ نُورَ الرِّضَا، وَتُذْهِبُ بَهْجَتَهُ. وَتُبَدِّلُ بِالْمَرَارَةِ حَلَاوَتَهُ. وَتُكَدِّرُ صَفْوَهُ.

قَالَ: الشَّرْطُ الثَّالِثُ: الْخَلَاصُ مِنَ الْمَسْأَلَةِ لِلْخَلْقِ وَالْإِلْحَاحِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>