للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَانْتِفَاعِهِ بِهِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعَارِفُونَ بِاللَّهِ أَنَّ التَّوْفِيقَ هُوَ أَنْ لَا يَكِلَكَ اللَّهُ إِلَى نَفْسِكَ، وَأَنَّ الْخِذْلَانَ هُوَ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ نَفْسِكَ، فَالْعَبِيدُ مُتَقَلِّبُونَ بَيْنَ تَوْفِيقِهِ وَخِذْلَانِهِ، بَلِ الْعَبْدُ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ يَنَالُ نَصِيبَهُ مِنْ هَذَا وَهَذَا، فَيُطِيعُهُ وَيُرْضِيهِ، وَيَذْكُرُهُ وَيَشْكُرُهُ بِتَوْفِيقِهِ لَهُ ثُمَّ يَعْصِيهِ وَيُخَالِفُهُ وَيُسْخِطُهُ وَيَغْفُلُ عَنْهُ بِخِذْلَانِهِ لَهُ، فَهُوَ دَائِرٌ بَيْنَ تَوْفِيقِهِ وَخِذْلَانِهِ، فَإِنْ وَفَّقَهُ فَبِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَإِنْ خَذَلَهُ فَبِعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَهُوَ الْمَحْمُودُ عَلَى هَذَا وَهَذَا، لَهُ أَتَمُّ حَمْدٍ وَأَكْمَلُهُ، وَلَمْ يَمْنَعِ الْعَبْدَ شَيْئًا هُوَ لَهُ، وَإِنَّمَا مَنَعَهُ مَا هُوَ مُجَرَّدُ فَضْلِهِ وَعَطَائِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَضَعُهُ وَأَيْنَ يَجْعَلُهُ؟

فَمَتَى شَهِدَ الْعَبْدُ هَذَا الْمَشْهَدَ وَأَعْطَاهُ حَقَّهُ، عَلِمَ شِدَّةَ ضَرُورَتِهِ وَحَاجَتِهِ إِلَى التَّوْفِيقِ فِي كُلِّ نَفَسٍ وَكُلِّ لَحْظَةٍ وَطَرْفَةِ عَيْنٍ، وَأَنَّ إِيمَانَهُ وَتَوْحِيدَهُ بِيَدِهِ تَعَالَى، لَوْ تَخَلَّى عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ لَثُلَّ عَرْشُ تَوْحِيدِهِ، وَلَخَرَّتْ سَمَاءُ إِيمَانِهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَأَنَّ الْمُمْسِكَ لَهُ هُوَ مَنْ يُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَهِجِّيرَى قَلْبِهِ وَدَأْبُ لِسَانِهِ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ، يَا مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قَلْبِي إِلَى طَاعَتِكَ، وَدَعْوَاهُ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، يَا بَدِيعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَا إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ.

فَفِي هَذَا الْمَشْهَدِ يَشْهَدُ تَوْفِيقَ اللَّهِ وَخِذْلَانَهُ، كَمَا يَشْهَدُ رُبُوبِيَّتَهُ وَخَلْقَهُ، فَيَسْأَلُهُ تَوْفِيقَهُ مَسْأَلَةَ الْمُضْطَرِّ، وَيَعُوذُ بِهِ مِنْ خِذْلَانِهِ عِيَاذَ الْمَلْهُوفِ، وَيُلْقِي نَفْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، طَرِيحًا بِبَابِهِ مُسْتَسْلِمًا لَهُ، نَاكِسَ الرَّأْسِ بَيْنَ يَدَيْهِ، خَاضِعًا ذَلِيلًا مُسْتَكِينًا، لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَنُشُورًا.

وَالتَّوْفِيقُ إِرَادَةُ اللَّهِ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَفْعَلَ بِعَبْدِهِ مَا يُصْلِحُ بِهِ الْعَبْدَ، بِأَنْ يَجْعَلَهُ قَادِرًا عَلَى فِعْلِ مَا يُرْضِيهِ، مُرِيدًا لَهُ، مُحِبًّا لَهُ، مُؤْثِرًا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَيُبَغِّضَ إِلَيْهِ مَا يُسْخِطُهُ، وَيُكَرِّهَهُ إِلَيْهِ، وَهَذَا مُجَرَّدُ فِعْلِهِ، وَالْعَبْدُ مَحَلٌّ لَهُ، قَالَ تَعَالَى {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ - فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: ٧ - ٨] فَهُوَ سُبْحَانَهُ عَلِيمٌ بِمَنْ يَصْلُحُ لِهَذَا الْفَضْلِ وَمَنْ لَا يَصْلُحُ لَهُ، حَكِيمٌ يَضَعُهُ فِي مَوَاضِعِهِ وَعِنْدَ أَهْلِهِ، لَا يَمْنَعُهُ أَهْلَهُ، وَلَا

<<  <  ج: ص:  >  >>