للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

الدُّنْيَا مَا لَا يَلْحَقُهُ أَتَرْجُو أَنْ تَلْحَقَ مِنْ الْآخِرَةِ مَا لَا تَطْلُبُهُ. وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:

أَرَاك امْرَأً تَرْجُو مِنْ اللَّهِ عَفْوَهُ ... وَأَنْتَ عَلَى مَا لَا يُحِبُّ مُقِيمُ

تَدُلُّ عَلَى التَّقْوَى وَأَنْتَ مُقَصِّرٌ ... فَيَا مَنْ يُدَاوِي النَّاسَ وَهُوَ سَقِيمُ

وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الصَّبْرِ إنَّمَا يَكُونُ لِفَرْطِ الْجَزَعِ وَشِدَّةِ الْخَوْفِ فَإِنَّ مَنْ خَافَ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - وَصَبَرَ عَلَى طَاعَتِهِ، وَمَنْ جَزَعَ مِنْ عِقَابِهِ وَقَفَ عِنْدَ أَوَامِرِهِ.

وَالْقِسْمُ الثَّانِي: الصَّبْرُ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ أَوْقَاتُهُ مِنْ رَزِيَّةٍ قَدْ أَجْهَدَهُ الْحُزْنُ عَلَيْهَا، أَوْ حَادِثَةٍ قَدْ كَدَّهُ الْهَمُّ بِهَا فَإِنَّ الصَّبْرَ عَلَيْهَا يَعْقُبُهُ الرَّاحَةُ مِنْهَا، وَيُكْسِبُهُ الْمَثُوبَةَ عَنْهَا. فَإِنْ صَبَرَ طَائِعًا وَإِلَّا احْتَمَلَ هَمَّا لَازِمًا وَصَبَرَ كَارِهًا آثِمًا. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَائِي وَيَصْبِرْ عَلَى بَلَائِي فَلْيَخْتَرْ رَبًّا سِوَايَ» .

وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ لِلْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ: إنَّك إنْ صَبَرْت جَرَى عَلَيْك الْقَلَمُ وَأَنْتَ مَأْجُورٌ، وَإِنْ جَزِعْتَ جَرَى عَلَيْك الْقَلَمُ وَأَنْتَ مَأْزُورٌ. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو تَمَّامٍ فِي شَعْرِهِ فَقَالَ: وَقَالَ عَلِيٌّ فِي التَّعَازِي لِأَشْعَثَ وَخَافَ عَلَيْهِ بَعْضَ تِلْكَ الْمَآثِمِ:

أَتَصْبِرُ لِلْبَلْوَى عَزَاءً وَخَشْيَةً ... فَتُؤْجَرُ أَوْ تَسْلُو سُلُوَّ الْبَهَائِمْ

وَقَالَ شَبِيبُ بْنُ شَيْبَةَ لِلْمَهْدِيِّ: إنَّ أَحَقَّ مَا تَصْبِرُ عَلَيْهِ مَا لَمْ تَجِدْ إلَى دَفْعِهِ سَبِيلًا. وَأَنْشَدَ:

وَلَئِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ فَاصْبِرْ لَهَا ... عَظُمَتْ مُصِيبَةُ مُبْتَلٍ لَا يَصْبِرُ

وَقَالَ آخَرُ:

تَصَبَّرْتُ مَغْلُوبًا وَإِنِّي لَمُوجَعٌ ... كَمَا صَبَرَ الظَّمْآنُ فِي الْبَلَدِ الْقَفْرِ

وَلَيْسَ اصْطِبَارِي عَنْك صَبْرَ اسْتِطَاعَةٍ ... وَلَكِنَّهُ صَبْرٌ أَمَرُّ مِنْ الصَّبْرِ

وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: الصَّبْرُ عَلَى مَا فَاتَ إدْرَاكُهُ مِنْ رَغْبَةٍ مَرْجُوَّةٍ، وَأَعْوَزَ نَيْلُهُ مِنْ مَسَرَّةٍ مَأْمُولَةٍ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَنْهَا يُعْقِبُ السَّلْوَ مِنْهَا، وَالْأَسَفُ بَعْدَ

<<  <   >  >>