للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَفْضِيلِ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ بِمَا لَيْسَ يَتَّسِعُ كِتَابُنَا هَذَا لِبَسْطِ الْقَوْلِ فِيهِ، غَيْرَ أَنَّ مَنْ فَضَّلَ الزَّرْعَ فَلِقُرْبِ مَدَاهُ، وَوُفُورِ جَدَاهُ وَمَنْ فَضَّلَ الشَّجَرَ فَلِثُبُوتِ أَصْلِهِ وَتَوَالِي ثَمَرِهِ.

وَأَمَّا الثَّانِي مِنْ أَسْبَابِهَا وَهُوَ نِتَاجُ الْحَيَوَانِ: فَهُوَ مَادَّةُ أَهْلِ الْفَلَوَاتِ وَسُكَّانِ الْخِيَامِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ تَسْتَقِرَّ بِهِمْ دَارٌ، وَلَمْ تَضُمَّهُمْ أَمْصَارٌ افْتَقَرُوا إلَى الْأَمْوَالِ الْمُنْتَقِلَةِ مَعَهُمْ، وَمَا لَا يَنْقَطِعُ نَمَاؤُهُ بِالظَّعْنِ وَالرِّحْلَةِ، فَاقْتَنَوْا الْحَيَوَانَ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَقِلُّ فِي النَّقْلَةِ بِنَفْسِهِ، وَيَسْتَغْنِي عَنْ الْعُلُوفَةِ بِرَعْيِهِ. ثُمَّ هُوَ مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوبٌ، فَكَانَ اقْتِنَاؤُهُ عَلَى أَهْلِ الْخِيَامِ أَيْسَرَ لِقِلَّةِ مُؤْنَتِهِ وَتَسْهِيلِ الْكُلْفَةِ بِهِ، وَكَانَتْ جَدْوَاهُ عَلَيْهِمْ أَكْثَرَ لِوُفُورِ نَسْلِهِ وَاقْتِيَاتِ رِسْلِهِ إلْهَامًا مِنْ اللَّهِ لِخَلْقِهِ فِي تَعْدِيلِ الْمَصَالِحِ فِيهِمْ، وَإِرْشَادِ الْعِبَادِ فِي قَسْمِ الْمَنَافِعِ بَيْنَهُمْ.

وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «خَيْرُ الْمَالِ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ وَسِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ» . وَمَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ أَيْ كَثِيرَةُ النَّسْلِ. وَمِنْهُ تَأَوَّلَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ قَوْله تَعَالَى: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء: ١٦] . أَيْ كَثَّرْنَا عَدَدَهُمْ. وَأَمَّا السِّكَّةُ الْمَأْبُورَةُ فَهِيَ النَّخْلُ الْمُؤَبَّرَةُ الْحُمُلُ.

وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «فِي الْغَنَمِ سِمَنُهَا مَعَاشٌ، وَصُوفُهَا رِيَاشٍ» . وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ لِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا مَالُك يَا أَبَا ظَبْيَانَ؟ قَالَ قُلْت: عَطَائِي أَلْفَانِ. قَالَ: اتَّخِذْ مِنْ هَذَا الْحَرْثِ وَالسَّائِبَاتِ قَبْلَ أَنْ تَلِيَك غِلْمَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ لَا تَعُدُّ الْعَطَاءَ مَعَهُمْ مَالًا، وَالسَّائِبَاتُ النِّتَاجُ.

وَحُكِيَ أَنَّ «امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي اتَّخَذْت غَنَمًا أَبْتَغِي نَسْلَهَا وَرِسْلَهَا وَأَنَّهَا لَا تَنْمِي. فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا أَلْوَانُهَا؟ قَالَتْ: سُودٌ. فَقَالَ: عَفِّرِي» . وَهَذَا مِثْلُ «قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَنَاكِحِ الْآدَمِيِّينَ: اغْتَرِبُوا وَلَا تُضْوُوا» .

وَأَمَّا الثَّالِثُ مِنْ أَسْبَابِهَا وَهِيَ التِّجَارَةُ: فَهِيَ فَرْعٌ لِمَادَّتَيْ الزَّرْعِ

<<  <   >  >>