عَلَى أَنَّ سَتْرَ الْمَعْرُوفِ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ ظُهُورِهِ، وَأَبْلَغَ دَوَاعِي نَشْرِهِ؛ لِمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ مِنْ إظْهَارِ مَا خُفِّي وَإِعْلَانُ مَا كُتِمَ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ هَارُونَ:
خِلٌّ إذَا جِئْتَهُ يَوْمًا لِتَسْأَلَهُ ... أَعْطَاك مَا مَلَكَتْ كَفَّاهُ وَاعْتَذَرَا
يُخْفِي ضَائِعَهُ وَاَللَّهُ يُظْهِرُهَا ... إنَّ الْجَمِيلَ إذَا أَخْفَيْتَهُ ظَهَرَا
وَمِنْ شُرُوطُ الْمَعْرُوفِ تَصْغِيرُهُ عَنْ أَنْ يَرَاهُ مُسْتَكْبَرًا، وَتَقْلِيلُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَكْثِرًا، لِئَلَّا يَصِيرَ بِهِ مُدِلًّا بَطِرًا وَمُسْتَطِيلًا أَشِرًا. وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا يَتِمُّ الْمَعْرُوفُ إلَّا بِثَلَاثٍ خِصَالٍ: تَعْجِيلُهُ وَتَصْغِيرُهُ وَسَتْرُهُ، فَإِذَا عَجَّلْتَهُ هَنَّأْتَهُ، وَإِذَا صَغَّرْتَهُ عَظَّمْتَهُ، وَإِذَا سَتَرْتَهُ أَتْمَمْتَهُ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
زَادَك الْمَعْرُوفُ عِنْدِي عِظَمًا ... إنَّهُ عِنْدَك مَيْسُورٌ حَقِيرُ
وَتَنَاسَيْتَ كَأَنْ لَمْ تَأْتِهِ ... وَهُوَ عِنْدَ النَّاسِ مَشْهُورٌ خَطِيرُ
وَمِنْ شُرُوطِ الْمَعْرُوفِ: مُجَانَبَةُ الِامْتِنَانِ بِهِ وَتَرْكُ الْإِعْجَابِ بِفِعْلِهِ؛ لِمَا فِيهِمَا مِنْ إسْقَاطِ الشُّكْرِ، وَإِحْبَاطِ الْأَجْرِ.
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إيَّاكُمْ وَالِامْتِنَانَ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنَّهُ يُبْطِلُ الشُّكْرَ، وَيَمْحَقُ الْأَجْرَ. ثُمَّ تَلَا: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: ٢٦٤] »
وَسَمِعَ ابْنُ سِيرِينَ رَجُلًا يَقُولُ لِرَجُلٍ: فَعَلْتُ إلَيْك وَفَعَلْتُ. فَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: اُسْكُتْ فَلَا خَيْرَ فِي الْمَعْرُوفِ إذَا أُحْصِيَ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْمَنُّ مَفْسَدَةُ الصَّنِيعَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: كَدَّرَ مَعْرُوفًا امْتِنَانٌ وَضَيَّعَ حَسَبًا امْتِهَانٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: مَنْ مَنَّ بِمَعْرُوفِهِ أَسْقَطَ شُكْرِهِ، وَمَنْ أُعْجِبَ بِعَمَلِهِ أُحْبِطَ أَجْرُهُ.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ: قُوَّةُ الْمِنَنِ مِنْ ضَعْفِ الْمُنَنِ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
أَفْسَدْتَ بِالْمَنِّ مَا أَسْدَيْتَ مِنْ حُسْنٍ ... لَيْسَ الْكَرِيمُ إذَا أَسْدَى بِمَنَّانِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute