يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً إلَّا بِهِ". فَقَوْلُهُ: "وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ" وَعِيدٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ إلَّا بِتَرْكِ الْفَرْضِ; فَهَذَا يُوجِبُ اسْتِيعَابَ الرِّجْلِ بِالطَّهَارَةِ وَيُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يُجِيزُ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْبَعْضِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ" وَقَوْلُهُ بَعْدَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ: "هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً إلَّا بِهِ" يُوجِبُ اسْتِيعَابَهَا بِالْغَسْلِ; لِأَنَّ الْوُضُوءَ اسْمٌ لِلْغَسْلِ يَقْتَضِي إجْرَاءَ الْمَاءِ عَلَى الْمَوْضِعِ, وَالْمَسْحُ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ; وَفِي الْخَبَرِ الْآخَرِ إخْبَارٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ الصَّلَاةَ إلَّا بِغَسْلِهِمَا. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الْمَسْحُ جَائِزًا لَمَا أَخْلَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيَانِهِ; إذْ كَانَ مُرَادُ اللَّهِ فِي الْمَسْحِ كَهُوَ فِي الْغَسْلِ, فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَسْحُهُ فِي وَزْنِ غَسْلِهِ, فَلَمَّا لَمْ يَرِدْ عَنْهُ الْمَسْحُ حَسَبَ وُرُودِهِ فِي الْغَسْلِ ثَبَتَ أَنَّ الْمَسْحَ غَيْرُ مُرَادٍ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ كَالْآيَتَيْنِ فِي إحْدَاهُمَا الْغَسْلُ وَفِي الْأُخْرَى الْمَسْحُ لِاحْتِمَالِهِمَا لِلْمَعْنَيَيْنِ, فَلَوْ وَرَدَتْ آيَتَانِ إحْدَاهُمَا تُوجِبُ الْغَسْلَ وَالْأُخْرَى الْمَسْحَ لَمَا جَازَ تَرْكُ الْغَسْلِ إلَى الْمَسْحِ; لِأَنَّ فِي الْغَسْلِ زِيَادَةَ فِعْلٍ, وَقَدْ اقْتَضَاهُ الْأَمْرُ بِالْغَسْلِ, فَكَانَ يَكُونُ حِينَئِذٍ يَجِبُ اسْتِعْمَالُهُمَا عَلَى أَعَمِّهِمَا حُكْمًا وَأَكْثَرِهِمَا فَائِدَةً وَهُوَ الْغَسْلُ لِأَنَّهُ يَأْتِي عَلَى الْمَسْحِ وَالْمَسْحُ لَا يَنْتَظِمُ الْغَسْلَ. وَأَيْضًا لَمَّا حَدَّدَ الرِّجْلَيْنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} كما قال: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} دَلَّ عَلَى است يُعَابِ الْجَمِيعِ, كَمَا دَلَّ ذِكْرُ الْأَيْدِي عَلَى الْمَرَافِقِ عَلَى اسْتِيعَابِهِمَا بِالْغَسْلِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى قَدَمَيْهِ وَنَعْلَيْهِ. قِيلَ لَهُ: لَا يَجُوزُ قَبُولُ أَخْبَارِ الْآحَادِ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لِمَا فِيهِ مِنْ الِاعْتِرَاضِ بِهِ عَلَى مُوجِبِ الْآيَةِ مِنْ الْغَسْلِ عَلَى مَا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَخْبَارَ الْآحَادِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فِي مِثْلِهِ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ; وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَرَأَ: {وَأَرْجُلَكُمْ} بِالنَّصْبِ وَقَالَ: "الْمُرَادُ الْغَسْلُ" فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَازُ الْمَسْحِ وَالِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ دُونَ الْغَسْلِ لَمَا قَالَ: إنَّ مُرَادَ اللَّهِ الْغَسْلُ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ, قَالَ فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ" وَهُوَ حَدِيثُ شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ: أَنَّ عَلِيًّا صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ قَعَدَ فِي الرَّحْبَةِ, فَلَمَّا حَضَرَتْ الْعَصْرُ دَعَا بِكُوزٍ مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ, وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ وَقَالَ: "هَذَا وُضُوءُ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ" وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ فِي وُضُوءِ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ. وَأَيْضًا لَمَّا احْتَمَلَتْ الْآيَةُ الْغَسْلَ وَالْمَسْحَ, اسْتَعْمَلْنَاهَا عَلَى الْوُجُوبِ فِي الْحَالَيْنِ: الْغَسْلُ فِي حَالِ ظُهُورِ الرِّجْلَيْنِ, وَالْمَسْحُ فِي حَالِ لُبْسِ الْخُفَّيْنِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا سَقَطَ فَرْضُ الرِّجْلِ فِي حَالِ التَّيَمُّمِ كَمَا سَقَطَ الرَّأْسُ, دَلَّ عَلَى أَنَّهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute