تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: "وَإِنْ شَارَكَهُ كَلْبٌ آخَرُ فَلَا تَأْكُلْهُ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي قَتَلَهُ"؟ فَحَظَرَ الشَّارِعُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْلَهُ حِينَ جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ قَتَلَهُ كَلْبٌ آخَرُ, فَكَذَلِكَ إذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مِمَّا كَانَ يُدْرِكُ ذَكَاتَهُ لَوْ طَلَبَهُ فَلَمْ يَفْعَلْ وَجَبَ أَنْ لَا يُؤْكَلَ, لِتَجْوِيزِ هَذَا الْمَعْنَى فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: رَوَى مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي يُدْرِكُ صَيْدَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ: " يَأْكُلُهُ إلَّا أَنْ يُنْتِنَ" وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: "إذَا أَدْرَكْت بَعْدَ ثَلَاثٍ وَسَهْمُك فِيهِ فَكُلْهُ مَا لَمْ يُنْتِنْ". قِيلَ لَهُ: قَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى رَفْضِ هَذَا الْخَبَرِ, وَتَرْكِ اسْتِعْمَالِهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ لَا يَقُولُ إنَّهُ إذَا وَجَدَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ يَأْكُلُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَبَاحَ لَهُ أَكْلَهُ مَا لَمْ يُنْتِنْ, وَلَا اعْتِبَارَ عِنْدَ أَحَدٍ بِتَغَيُّرِ الرَّائِحَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ تَغَيُّرَ الرَّائِحَةِ لَا حُكْمَ لَهُ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ وَإِنَّمَا الْحُكْمُ يَتَعَلَّقُ بِالذَّكَاةِ أَوْ فَقْدِهَا, فَإِنْ كَانَ الصَّيْدُ مُذَكًّى مَعَ تَرَاخِي الْمُدَّةِ فَلَا حُكْمَ لَلرَّائِحَة, وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُذَكًّى فَلَا حُكْمَ أَيْضًا لِعَدَمِ تَغَيُّرِهِ. وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيّ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ عُمَيْرِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ نَهْدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَرَّ بِالرَّوْحَاءِ, فَإِذَا هُوَ بِحِمَارِ وَحْشٍ عَقِيرٍ فِيهِ سَهْمٌ قَدْ مَاتَ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دَعُوهُ حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبُهُ" فَجَاءَ النَّهْدِيُّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هِيَ رَمْيَتِي فَكُلُوهُ فَأَمَرَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُقَسِّمَ بَيْنَ الرِّفَاقِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ". فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِذَلِكَ فِي إبَاحَةِ أَكْلِهِ إنْ تَرَاخَى عَنْ طَلَبِهِ لِتَرْكِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْأَلَتَهُ عَنْ ذَلِكَ, وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ لَسَأَلَهُ; وَلَيْسَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَا ذُكِرَ, مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاهَدَ هَذَا الْحِمَارَ عَلَى حَالٍ اسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى قُرْبِ وَقْتِ الْجِرَاحَةِ مِنْ سَيْلَانِ الدَّمِ وَطَرَاوَتِهِ وَمَجِيءِ الرَّامِي عَقِبَهُ, فَعَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَتَرَاخَ عَنْ طَلَبِهِ, فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْأَلْهُ.
فَإِنْ قِيلَ: رَوَى هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا أَهْلُ صَيْدٍ يَرْمِي أَحَدُنَا الصَّيْدَ فَيَغِيبُ عَنْهُ اللَّيْلَةَ وَاللَّيْلَتَيْنِ ثُمَّ يَتْبَعُ أَثَرَهُ بَعْدَمَا يُصْبِحُ فَيَجِدُ سَهْمَهُ فِيهِ؟ قَالَ: "إذَا وَجَدْت سَهْمَك فِيهِ وَلَمْ تَجِدْ بِهِ أَثَرَ سَبُعٍ وَعَلِمْت أَنَّ سَهْمَك قَتَلَهُ فَكُلْهُ". قِيلَ لَهُ: هَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لَوْ أَصَابَهُ بَعْدَ لَيَالِي كَثِيرَةٍ أَنْ يَأْكُلَهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ سَهْمَهُ قَتَلَهُ, وَلَا نَعْلَمُ ذَلِكَ قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ; لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ الْعِلْمَ بِأَنَّ سَهْمَهُ قَتَلَهُ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ لَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّ سَهْمَهُ قَتَلَهُ بَعْدَمَا تَرَاخَى عَنْ طَلَبِهِ, وَقَدْ شَرَطَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُصُولَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ, فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يَأْكُلَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ إذَا تَرَاخَى عَنْ طَلَبِهِ وَطَالَتْ الْمُدَّةُ أَنَّ سَهْمَهُ قَتَلَهُ. وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله بن أحمد بن حنبل قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute