للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نفسر ما ذكروه من وقوع النابغة في اللحن، ومن وجود الإقواء في شعره وفي شعر غيره، ومن ظهور اللحن في أيام الرسول؟ هل نرجع ذلك إلى خطأ الرواة في رواية شعر النابغة وأمثاله، أو نرجع ذلك على التزوير، فنقول إن ذلك الشعر مفتعل، وإنه ليس من شعر النابغة، وإنما هو شعر منحول وضع عليه، ومن ثم وقع الخطأ. ولكن الذي نعرفه أن من كان ينحل العرب الشعر وينسبه للجاهليين، كان من أتقن الناس لشعر الجاهلية ومن أعرف الناس بالعربية، ومن البارعين الحاذقين بقواعدها، وأناس على هذا الطراز من الفهم والعلم، هل يعقل وقوع مثل هذا الغلط منهم؟ أو هل نرجع ذلك إلى الخطأ في التدوين والاستنساخ، ولكن كيف غفل العلماء من النص على ذلك؟

وجوابي أن القول بأن اللحن بمعنى الخطأ في الكلام، يستوجب وجود لغة فصيحة ذات قواعد نحوية وصرفية مقدرة ومقننة وثابتة تعد اللغة الفصيحة العالية في نظر أصحابها، من يخالف قواعدها يعد لحانًا لا يحسن القول ولا الكلام. وهو قول لا يعارضه أحد بالنسبة إلى وجوده في الإسلام، بعد أن فرض الإسلام دين الله على المؤمنين به كتابًا سماويًّا ولسانًا عربيًا مبينًا، تثبتت قواعد نحوه وصرفه في الإسلام. فمن سار عليها عدَّ فصيحًا، ومن خالفها عدَّ لحانًا عاميًّا. أما بالنسبة لأهل الجاهلية، فالقول بوجود اللحن عندهم، يقتضي التسليم بوجود لغة فصيحة عُليا لديهم، لها قواعد مقررة، من تكلم وِفْقَهَا عدَّ فصيحًا، حسب درجة إعرابه وملكته في اللغة، ومن خالفها عدَّ عاميًّا جلفًا. وقد أكد علماء اللغة، وجود هذه العربية الفصيحة، التي هي عندهم عربية قريش، عند ظهور الإسلام، وقالوا: إن بها كان نزول عربية القرآن، وبها نظم الشعر الجاهلي، وبها نثر الكلام الجاهلي المنثور. أما اللحن، فقد أنكروا وجوده، ولم يسلموا بوقوعه، وحجتهم ما ذكرته من أن العربي فصيح بطبعه، إذا تكلم تكلم عن سجية فيه وسليقة، لم يلحن ولم يخطئ في كلامه في الجاهلية، إلى أن كان الإسلام، فاختلط العرب بالأعاجم، ودخل الغرباء بين العرب، ففسد الطبع وظهر الخطأ في اللسان، وفشا اللحن.

وقد يعقل تصور وجود هذه العربية الفصحى، إذا افترضنا -مع المفترضين الأخباريين- أن تلك العربية، هي عربية أهل مكة ومن عاش حولهم، وأنها كانت عربية قريش، وأن المتكلمين بها كانوا بشرًا عصموا عن الخطأ في اللسان

<<  <  ج: ص:  >  >>