للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قد توسط لدى البيزنطيين لتنصيب نفسه ملكًا على مكة١. ورأيت أن أهل الجاهلية، كانوا يعيرون قريشًا بأنها لا تحسن القتال، وأنها تجاري وتساير من غلب، وأنها لا تخرج إلا بخفارة خفير، وبحلف حليف، وبحبل من هذه الحبال التي عقدتها مع سادات القبائل. فلما سمع "النعمان بن قبيصة بن حية الطائي" ابن عم "قبيصة بن إياس بن حية الطائي" صاحب الحيرة، بـ"سعد بن أبي وقاص"، سأل عنه، فقيل: "رجل من قريش، فقال: أما إذا كان قرشيًّا فليس بشيء، والله لأجاهدنه القتال، إنما قريش عبيد من غلب، والله ما يمنعون خفيرًا، ولا يخرجون من بلادهم إلا بخفير"٢، فهل في هذا الكلام بعد –إن صح بالطبع- ما يشير إلى نفوذ سياسي.

بل وجدت أن أهل الأخبار يذكرون أن "قصي بن كلاب"، وهو مجمع قريش وموطد حكمها على مكة إنما بسط نفوذه عليها بمساعدة الروم له، حيث يقولون: "وجاء قصي بن كلاب، فجمع معدًا -وبذلك سُمّي مجمعًا- واستعان ملكَ الروم فأعانه، وحارب الأزدَ فغلبهم واستولى على مكة"٣. وكان الأزد على حدّ قول هذه الرواية قد طردوا جرهم عن مكة واستولوا عليها، فجاء "قصي" وأزاحهم عنها، بمعونة "ملك الروم"، فما كانت قريش لتزيحهم عنها لولا هذه المعونة، وقوم يستعينون بالأجانب للاستيلاء على قرية فقيرة هي كل ما ملكوا هل يعقل بعد أن يكون لهم نفوذ سياسي على النحو الذي تصوروه وذكروه!

وقد وجدت أنهم كانوا يصطنعون الأحابيش والقبائل، للدفاع عن مدينتهم، وأنهم استعانوا بالقبائل يوم "الأحزاب" في قتالهم المسلمين. وليس في هذا الاصطناع دلالة على سيادة سياسية، وإنما هو دليل الضعف وشراء القلوب وتأليفها بالمال. فإذا كان في هذا الشراء معنى السيادة معنى السيادة السياسية، فهو إذن أمر آخر.

وقد رأينا أنهم كانوا يصانعون الصعالي والخلعاء، للاستفادة منهم، وللاستعانة بهم في حماية أنفسهم٤، ورأينا أن قريش الظواهر كانوا يفخرون على قريش مكة


١ المفصل "٤/ ٣٩".
٢ الطبري "٣/ ٥٧٢ وما بعدها"، "دار المعارف"، المفصل "٤/ ٣٧".
٣ الخزانة "٢/ ٣٢٤"، "هارون".
٤ رسائل الجاحظ "٧٠". "السندوبي". جواد علي، المفصل "٤/ ٦٨".

<<  <  ج: ص:  >  >>