من المرور منها، فإن دخلهم يكون حينئذٍ كبيرًا، يحملهم على التوسع والطموح, وعلى السيطرة على الآخرين بقدر الإمكان.
وكما كانت القوافل التجارية والطرق البرية رحمة للمستوطنات الصحراوية التي نشأت وتكونت عند عقد العصب الحساس لهذه الطرق، كذلك صارت تلك الطرق نقمة على تلك المستوطنات؛ إذ طالما قضت عليها وحكمت عليها بالموت، فقد يجد التجار وأصحاب القوافل طرقًا أسهل وأقصر في قطعهم للبادية، أو معاملة أطيب من سيد قبيلة منافس أو حماية عسكرية أقوى، فيتحولون عن تلك الطرق المسلوكة إلى طرق أخرى، فتموت بذلك المستوطنات المقامة عليها، ويضطر أهلها إلى تركها إلى مواطن جديدة. وقد كان لاستخدام الطرق المائية من طرق نهرية وبحرية، أثر كبير في إماتة الطرق البرية أو في منافستها، كذلك كان للطرق البرية ولا سيما الطرق العسكرية الممهدة التي أقامها الرومان والروم في بلاد الشأم، أو الفرس في العراق أثر كبير في القضاء على المستوطنات التي نشأت في البوادي؛ إذ فضل التجار السير في هذه الطرق المأمونة التي لا يتحكم فيها سادات القبائل في مقدراتهم، ولا يدفعون ضرائب مرور عن الأرضين على تلك الطرق الموحشة المقفرة المملوءة بالمخاطر والتي يتحكم فيها أبناء البادية في مقدرات التجار، فيفرضون عليهم ضرائب مرور من أرضهم كما يشاءون من غير تقدير لما سيجر ذلك عليهم وعلى التجار من أضرار. وبذلك أعان أبناء البادية بأنفسهم على إماتة مستوطناتهم في بعض الأحيان.
ويظهر من "جغرافية""سترابو" أن أرض الجزيرة ومنطقة الفرات والبادية المتصلة ببلاد الشأم، كانت في حكم سادات قبائل، يحكمون وكأنهم "عمال" فيلارك" Phylarchus. وكان بعض هؤلاء يحكمون أرضين صغيرة، وحكمهم حكم "مشايخ القبائل" في عرف هذا اليوم: يشتغل أتباعهم بالرعي، وبعضهم يشتغلون بالزراعة، وآخرون بالتجارة. وكان قسم منهم أعرابًا يتنقلون في البادية، ومنهم أشباه أعراب، ولا سيما أولئك القاطنين على ساحل العقبة، أي خليج "أيلة" وقد استغل هؤلاء الأعراب طبيعة أرضهم، فكانوا يجبون "العشر" من التجار، أو يشتغلون هم أنفسهم بالاتجار أو يقومون بنقل التجارة لحساب غيرهم من التجار١.