ومن نظر في النصوص الكثيرة التي ذكرناها في ثنايا بحثنا هذا؛ سيجد أنَّ الفقهاء يعدُّون عَقْدَ الأمان حكمًا دينيًّا ملزمًا للمسلم، بغضِّ النظر عن كون الطرف الآخر في العقد متديِّنًا بذلك أم لا، وبغضِّ النظر ـ أيضًا ـ عن كونه من أهل الكتاب ـ اليهود أو النَّصارى ـ، أو من المشركين الوثنيِّين.
إنَّ لهذه الرؤية الدِّينيَّة أثرًا بالغًا على سلوك المسلم المتديِّنِ وتصرُّفه وهو يقيم في بلاد المخالفين له في الدِّين، فقد تدفعه الحماسةُ الإيمانيَّة، والمفاصلةُ الدينيَّة إلى استحلالِ دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وإلى الاعتقاد بأنَّه غير ملزمٍ بأيِّ ضابطٍ دينيٍّ أو أخلاقيٍّ في التعامل معهم، وبالتالي يجوز له نقض العهود معهم، وغشهم وخيانتهم والغدر بهم كلَّما وجد إلى ذلك سبيلاً! لكنَّه إذا علم بهذه التفاصيل التي قرَّرها العلماء في كتبهم؛ تبيَّن له أنَّ التزامه بشروط الدخول في أمان الكفار واجبٌ شرعيُّ وأخلاقيٌّ، وأنَّ نقضه للعقد القانونيِّ الذي لم يُبنَ على أصل دينيٍّ، ولم يقصد به التعبُّد لله تعالى، أو الموافقة لشرعه؛ هو بالنسبة إليه مخالفةٌ لشرع الله، ومعصيةٌ يحاسبه الله تعالى عليها يوم القيامة؛ وإن استطاع بمكره ودهائه التملُّص من المسؤولية القانونية، أو التخلُّص من العقوبة الجزائية في هذه الحياة الدنيا.
(٥)
وأصل هذا البحث محاضرة ألقيتُها في المؤتمر الذي أقامه مركز البحوث الإسلامية في السويد بالتعاون مع مسجد مريم محمد جبر المسلِّم بمدينة أوربرو، في غرَّة محرَّم: ١٤٣٠ هـ/كانون الثاني ٢٠٠٩ م، تحت شعار:«هكذا علَّم محمد - صلى الله عليه وسلم -».
وقد لقيتْ تلك المحاضرة ـ بفضل الله ـ استحسان واهتمام أكثر الحاضرين، وألحَّ عليَّ كثيرٌ منهم في التوسُّع فيها لتخرج في بحث موثَّق، وصرَّح كثيرٌ منهم بأنَّه لم يخطر ببالهم قطُّ أنَّ كتب الأئمة المتقدِّمين يمكن أن تزخر بهذه النصوص الرائعة، ولا سمعوا من يتحدَّث في هذا الموضوع،