الِاجْتِهَادِ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: ٥٥] الْآيَةَ. وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ - غَيْرَ الرَّافِضَةِ - أَنَّ هَذَا الِاسْتِخْلَافَ إنَّمَا يَكُونُ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِاجْتِهَادِ الْمُسْلِمِينَ وَآرَائِهِمْ، فِيمَنْ يَرَوْنَهُ مَوْضِعًا لِلْخِلَافَةِ لِفَضْلِهِ، وَأَنَّهُ أَصْلَحُ لِلْأُمَّةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: ٥٩] وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنَّ التَّنَازُعَ وَاقِعٌ فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، إذْ كَانَتْ الْعَادَةُ أَنَّ التَّنَازُعَ وَالِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَا يَقَعَانِ فِي الْمَذْكُورِ بِعَيْنِهِ. فَإِنَّهُ أَمْرٌ بِرَدِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَيَاتِهِ، وَسُنَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ. وَالرَّدُّ إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إنَّمَا هُوَ بِاسْتِخْرَاجِ حُكْمِهِ مِنْهُ بِالِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا أَنْكَرْتُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: ٥٩] الرَّدَّ إلَى نَصِّ الْكِتَابِ وَنَصِّ السُّنَّةِ، لَا مِنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ.
قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ التَّنَازُعَ إنَّمَا يَقَعُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ مَا نُصَّ عَلَيْهِ، لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ مِنْ أَمْرِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّك تَجْعَلُ تَقْدِيرَ الْآيَةِ عَلَى الْوَضْعِ: أَنْ اتَّبِعُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَهَذَا وَاجِبٌ فِي حَالِ التَّنَازُعِ وَغَيْرِهَا. فَتَخْلُوا الْآيَةُ مِنْ فَائِدَةِ ذِكْرِ التَّنَازُعِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّك خَصَّصْتَ الْأَمْرَ بِالرَّدِّ فِيمَا قَدْ نُصَّ عَلَيْهِ، دُونَ مَا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ، وَعُمُومُ اللَّفْظِ يَقْتَضِي وُجُودَ الرَّدِّ فِي الْحَالَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَ الْحُكْمُ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ أَوْ غَيْرَ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، فَلَا جَائِزَ لِأَحَدٍ تَخْصِيصُهُ وَالِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى حَالِ وُجُودِ النَّصِّ دُونَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute