وَقَوْمٌ يَجْتَهِدُونَ قَبْلَ حِفْظِ الْأُصُولِ وَإِتْقَانِهَا. فَانْصَرَفَ ذَمُّ مَنْ ذَمَّ الرَّأْيَ إلَى أَحَدِ هَذِهِ الطَّوَائِفِ، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَهُمْ الْقَوْلُ بِالرَّأْيِ عِنْدَ عَدَمِ النُّصُوصِ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّمَا أَرَادَ مَنْ قَالَ بِالرَّأْيِ قَبْلَ حِفْظِ الْأُصُولِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، قَوْلُهُ: إيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ، فَإِنَّهُمْ أَعْيَتْهُمْ الْأَحَادِيثُ أَنْ يَحْفَظُوهَا، فَقَالُوا بِالرَّأْيِ. فَخَصَّ بِالذَّمِّ مَنْ تَرَكَ أَحَادِيثَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَحْفَظَهَا، وَأَقْدَمَ عَلَى الْقَوْلِ بِالرَّأْيِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهَا، وَفَاعِلُ ذَلِكَ مَذْمُومٌ عِنْدَنَا، غَيْرُ مُسَوَّغٍ لَهُ الِاجْتِهَادُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ: وَيَتَّخِذُ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا، يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ، هُوَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ ذَمَّهُمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِالرَّأْيِ مَعَ الْجَهْلِ بِالْأُصُولِ الْمَنْصُوصَةِ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ مَسْرُوقٍ: أَنَّهُ قَالَ: لَا أَقِيسُ (شَيْئًا) بِشَيْءٍ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تَزِلَّ قَدَمِي، فَإِنَّ مَسْرُوقًا قَدْ كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ، مَشْهُورٌ ذَلِكَ عَنْهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فِي الْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ: يُجْعَلُ مَا فَضَلَ عَنْ الثُّلُثَيْنِ لِلذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ، فَخَرَجَ خَرْجَةً إلَى الْمَدِينَةِ، فَجَاءَ وَهُوَ يَرَى أَنْ يُشَرِّكَ بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ. فَقَالَ لَهُ عَلْقَمَةُ: (مَا رَدَّكَ عَنْ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ؟ أَلَقِيتَ أَحَدًا هُوَ أَوْثَقُ فِي نَفْسِك مِنْهُ؟ قَالَ: لَا. وَلَكِنْ لَقِيتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، فَوَجَدْتُهُ مِنْ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute