وعن بعض مشايخ المدينة قال: كانت عند عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، رضوان الله عليهما، جارية مغنية يقال لها عُمارة، فلما وفد عبد الله على معاوية خرج بها معه فزاره يزيد ذات يوم وأقام عنده، فأخرجها إليه فلما نظر إليها وسمع غناءها وقعت في نفسه فأخذه عليها ما لم يملك نفسه معه وجعل يمنعه من أن يبوح به مكان أبيه مع يأسه من الظفر بها، فلم يزل يكاتمه إلى أن مات معاوية وأفضى إليه الأمر وتقلد الخلافة يزيد، فاستشار بعض من يثق به في أمرها فقال: إن أمر عبد الله لا يرام، وأنت لا تستجيز إكراهه ولا يبيعها بشيء أبداً وليس يغني في هذا الأمر إلا الحيلة، قال: اطلب لي رجلاً عاقلاً من أهل العراق ظريفاً أديباً له معرفة ودراية، فطلبوه فأتوه به، فلما دخل عليه استنطقه فرأى بياناً وحلاوة وفقهاً، فقال له: إني دعوتك لأمر إن ظفرت به فهو حظوتك آخر الدهر ويدٌ أكافيك عليها، ثم أخبره بأمره، فقال: يا أمير المؤمنين إن عبد الله بن جعفر ما يرام ما قبله إلا بالخديعة وإن يقدر على ما سألت رجلٌ فأرجو أن أكونه والقوة بالله، فأعني يا أمير المؤمنين بالمال، قال: خذ ما أحببت، فأخذ واشترى من طُرف الشام وثياب مصر ومتاعها للتجارة ومن الرقيق والدواب وغير ذلك حاجته وشخص إلى المدينة فأناخ بعرصة عبد الله بن جعفر واكترى منزلاً إلى جانبه ثم توسل إليه وقال: أنا رجل من أهل العراق وقدمت بتجارة فأحببت أن أكون في جوارك وكنفك إلى أن أبيع ما جئت به، فبعث عبد الله إلى قهارمته وقال: أكرموا جارنا وأوسعوا عليه المنزل، فلما اطمأن العراقي وسلم عليه أياماً وعرّفه نفسه هيّأ له بغلة فارهة وثياباً من ثياب العراق وألطافاً وبعث بها إليه وكتب رقعة يقول فيها: يا سيدي أنا رجل تاجر ونعمة الله عليّ سابغة وعندي احتمال وقد بعثت إليك بشيء من اللطف وهو كذا ومن الثياب والعطر وبعثت إليك ببغلة خفيفة العنان وطية الظهر فاتخذها لرحلك وأنا أسألك بقرابتك من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلا قبلت هديتي ولم توحشني بردها فإني أدين الله عز وجل بحبك وحب أهل بيتك، وإن أفضل ما في سفري هذا أن أستفيد الأنس بك وأتشرف بمواصلتك، وأمر عبد الله بقبض هديته وخرج إلى الصلاة، فلما رجع مرّ بالعراقي في منزله فقام إليه وقبل يده وسلم عليه واستكثر منه، فرأى أدباً وظرفاً وحلاوة وفصاحة فأعجب به وسرّ بنزوله عليه، فجعل العراقي يبعث كل يوم بلطف إلى عبد الله وبطرف، فقال عبد الله: جزى الله ضيفنا هذا خيراً فقد ملأنا شكراً وأعيانا عن مجازاته، فإنهما لكذلك إذ دعاه عبد الله ودعا بعمارة وجواريه، فلما تعشيا وطاب لهما وسمع غناء عمارة تعجب وجعل يزيد في عجبه إذ رأى ذلك يسرّ عبد الله إلى أن قال له: رأيت مثل عمارة؟ قال: لا والله يا سيدي ما رأيت مثلها وما تصلح إلا لك وما ظننت أنه يكون في الدنيا مثل هذه حسن وجه وحذق عملٍ! قال: كم تساوي عندك؟ قال: ما لها ثمن إلا الخلافة، قال: تقول هذا لما ترى من رأيي فيها ولتجلب سروري! قال: والله يا سيدي إني لأحب سرورك وما قلت لك إلا الجدّ، وبعد فإني رجل تاجر أجمع الدرهم إلى الدرهم طلباً للربح ولو أعطيتها بعشرة آلاف دينار لأخذتها، قال عبد الله: بعشرة آلاف دينار؟ قال: نعم، ولم يكن في ذلك الزمان جارية بعشرة آلاف دينار، فقال عبد الله كالمازح: أنا أبيعكها بعشرة آلاف دينار! قال: قد أخذتها، قال: هي لك، قال: قد وجب البيع، وانصرف العراقي. فلما أصبح لم يشعر عبد الله إلا والمال قد وافاه، فقال عبد الله: بعث العراقي بالمال؟ قالوا: نعم بعشرة آلاف دينار وقال هذه ثمن عمارة، فردها إليه وقال: إنما كنت أمزح معك وما أعلمك أن مثلي لا يبيع مثلها، قال: جعلت فداك إن الجد والهزل في البيع سواء! قال له عبد الله: ويحك لا أعلم موضع جارية تساوي ما بذلت ولو كنت بائعها من أحد لآثرتك ولكني كنت أمازحك وما أبيعها بملك الدنيا لحرمتها بي وموقعها من قلبي، قال له العراقي: فإن كنت مازحاً فإني كنت جاداً، وما اطلعت على ما نفسك، وقد ملكت الجارية وبعثت بالثمن وليست تحلّ لك وما من أخذها بدّ، فمنعه إياها، فخرج العراقي وهو يقول: أستحلفك في مجلس أمير المؤمنين، فلما رأى عبد الله الجد منه قال: بئس الضيف! ما طرقنا طارق ولا نزل بنا ضيف أعظم بلية علينا منك، تحلفني فيقول الناس اضطهده