فقالوا: أيها الملك اتق الله في نفسك وفيمن معك! فقال: أتوكل على الله الذي خلق هذا البحر وهو جل وعز ينجينا من دردوره ولا أحسب أني أمسح ايران شهر شرقه وغربه وأعرف عدد جباله وأوديته إلا بعد ركوب هذا البحر وسلوكه إلى البر. فهيئت له السفن وركب معه عدة من النساك حتى لجّجوا في البحر ووافوا ذلك الذي يعرف بدهان شير فدفعوا إلى دردورٍ هائل فبقوا فيه متحيرين لا يرون مناراً يجعلونه علماً لهم ولا جبلاً يقيمونه أمارةً لمنصرفهم، فرجعوا على الملك باللوم والعيب. فقال: أخلصوا نياتكم لله جل وعز وتضرعوا إليه، ففعلوا، ونذر أنوشروان إن نجاه الله جل ذكره ليصّدّقن بخراج سبع سنين. قال: فرفعت له جزيرة تعلوها الأمواج وفوق الجزيرة أسد في عظم جبل يتشرب الماء مؤخره وينحطّ من فيه إلى ذلك الدردور، فبينا هم كذلك إذ بعث الله جل جلاله سمكة عظيمة فطفرت حتى صارت في في الأسد، فسكن الدردور ونفذت السفينة حتى وصل إلى ما أراد ثم انصرف إلى دار مملكته.
حمّاد قال: حدثني أبي قال: قال الأعشى في مدحه إياس بن قبيصة وذكره مسيره إلى الروم حيث لقيه كسرى أبرويز بساتيدما، وهو جبل يزعم أهل العلم أنه دون الجبال وأنه لا بد من أن يراق عليه دم كل يوم. قال الواقدي: بل هو محيط بالدنيا، وزعموا أنه ليس في الأرض يوم إلا ويسفك عليه دم، وإنما سمي ساتيدما معناه سيأتي دماً، فكان من خبر إياس بن قبيصة أن كسرى أبرويز كان رجلاً سيء الظن وأنه بعث شهربراز إلى الروم في جيش عظيم فأعطي من الظفر ما لم يعط أحد كان قبله، وهو الذي أصاب خزائن الملك التي كانت تسمى كنج بادآورد، أي الكنز الذي جاءت منه به الريح، وكانوا حملوها ليحرزوها، فضربتها الريح في الجزر من خليج البحر فأخذها وبعث بها إلى كسرى، فحسده كسرى وحذره وبعث إليه برجل تقدم إليه في قتله، وكان الذي أتاه رجل من أهل أذربيجان، فلما رأى جماله وهيئته قال: لا يصلح قتل هذا في غير جرم ولا حق، فأخبره بما أمره به، فأرسل شهربراز إلى قيصر: إني أريد أن ألقاك. فالتقيا، فقال له: إن هذا الخبيث قد أراد قتلي وإني والله لأريدن منه مثل الذي أراد مني، فاجعل لي ما أطمئن إليه وأعطيك مثل ذلك، ولئن قتلته لتجلعن لي ما أغلب عليه من الكور وأجعل لك أن لا أغزوك أبداً ولا أتناول شيئاً من أرضك وأن أعطيك من بيوت أموال كسرى مثل ما تنفق في مسيرك هذا، فأعطاه قيصر ما سأل، وسار قيصر في أربعين ألف مقاتل وخلّف شهربراز في أرض الروم وقد أخذ منه العهود والمواثيق، ولم يعلم كسرى بذلك حتى دنا منه قيصر، فلما بلغه ذلك علم أن شهربراز علم بما كان دبره من قتله، وكانت جنوده قد تفرقت في السواد وغيرها، وكان كسرى قد أبغضه أهل مملكته وملّوه وعرف حاله عند الناس، فاحتال بحيل الرجال واستعمل المكر والدهاء فبعث إلى قسّ عظيم من النصارى يثق ملك الروم بقوله فقال: إني أكتب معك كتاباً لطيفاً في حرير وأجعله في قناة إلى شهربراز وجائزتك عليّ ألف دينار، وقد عرف كسرى أن القسّ يذهب بالكتاب إلى ملك الروم، فكتب إلى شهربراز: إني كتبت إليك وقد دنا قيصر مني وقد أحسن الله جل وعز إليّ بصنيعك ونفوذ تدبيرك وقد فرقت لهم الجيوش وأنا تاركه حتى يدنو مني وأثب عليه وثبة أستأصل شأفته بها، وإذا كان ذلك اليوم وهو يوم كذا وكذا فأغر أنت عليّ من قبلك منهم فإنك تبيدهم وتهلكهم، وأرجو أن تكون لملك قيصر مصطلماً. فخرج القسّ بالكتاب حتى لقي قيصر، وقد كانت صوّرت لقيصر أرض العرب والعراق وصوّرت له النهروان بغير حين المدّ، فلما انتهى إليه في المد وليس عليه جسر وقرأ الكتاب من يد القسّ وقال: هذا هو الحق، ورجع منهزماً مفلولاً واتبعه كسرى بإياس بن قبيصة الطائي فأدركهم بساتيدما مرعوبين مفلولين من غير لقاء ولا قتال، فقتلوا قتل الكلاب ونجا قيصر في خواص من أصحابه، فمدح الأعشى إياس بن قبيصة وكان قد أصابه مرض فقال:
ما تعيف اليوم في الطير الرَّوَح ... من غراب البين أو تيس برح
جالساً في نفرٍ قد أيسوا ... في مقيل القدّ من صحب قزح