وقال معمر المتكلم صاحب المعاني: حضرت الوفاة رجلاً كان معي في الحبس، وكان داؤه البطن، فقلت له: كيف تجدك؟ قال: أجد تحرري أكثر من تبردي، وأجد روحي قد خرج من نصفي الأسفل، وكأن السماء قد دنت مني فلو شئت أن ألمسها بيدي لفعلت، ومهما شككت في شيءٍ فلا تشك أن الموت برد ويبس، وأن الحياة رطوبة وحرارة.
ليعقوب بن الربيع يرثي جاريته:
حتى إذا فتر اللسان وأصبحت ... للموت قد ذبلت ذبول النرجس
وتسهلت منها محاسن وجهها ... وغدا الأنين تحثه بتنفسٍ
رجع اليقين مطامعي يأساً كما ... رجع اليقين مطامع المتلمسٍ
لما احتضر سعيد بن المسيب، وجه إلى القبلة، فقال: ما هذا؟ فقالوا: وجهناك إلى القبلة. فقال: أولست على القبلة؛ أليس وجهي إلى الله حيث كان.
قال عطاء بن يسار: تبدي إبليس لرجل عند موته، فقال: نجوت قال ما أمنتك بعد.
لما احتضر عمرو بن عبيد، قال: جاءني الموت ولم أتأهب له، اللهم إنك تعلم أنه لم يسنح لي أمران لك في أحدهما رضى، ولي في الآخرة هوىً، إلا اخترت رضاك على هواي، اللهم فاغفر لي.
قيل لبعضهم، وقد احتضر: أي شيءٍ تشتكي؟ قال: تمام العدة، وانقضاء المدة.
قيل لأعرابي في مرضه: ما الذي تجدٍ؟ قال: أجد مالا أشتهي، وأشتهي مالا أجد.
قال: لما احتضر الحجاج قال: والله لئن كنت على سبيل هدىً فليس حين جزع، وإن كنت على سبيل ضلالة فليس حين فزع.
قال عبد الأعلى بن حماد البرقي: دخلت على بشر بن منصور، وهو في الموت: فرأيته مستبشراً، فقلت له: ما هذا السرور؟ قال: أخرج من بين الحاسدين والباغين والمغتابين، وأقدم على رب العالمين، ولا أفرح.
لما مرض أمية بن أبي الصلت - اسم أبي الصلت عبد الله بن أبي ربيعة بن عوف من ثقيف - مرضه الذي مات فيه، جعل يقول: قد دنا أجلي، وهذه المرضة منيتي، وأنا أعلم أن الحنيفية حق، ولكن الشك يداخلني في محمد، فلما دنت وفاته أغمى عليه قليلاً، ثم أفاق وهو يقول: لبيكما لبيكما، هأنذا لديكما. لا مال فيقذيني ولا عشيرة فتنجيني. ثم أغمى عليه أيضاً بعد ساعة حتى ظن من حضر من أهله أنه قد مضى، ثم أفاق وهو يقول: لبيكما لبيكما، هأنذا لديكما، لا برئ فأعتذر، ولا قوى فأنتصر. ثم إنه بقى يحدث من حضره ساعة، ثم أغمى عليه مثل المرتين الأوليين، حتى يئسوا من حياته، وأفاق وهو يقول: لبيكما لبيكما، هأنذا لديكما محفوف بالنعم، محفوظ من الريب:
إن تغفر الله تغفر جما ... وأي عبدٍ لك لا ألما
ثم أقبل على القوم، فقال: قد جاء وقتي، فكونوا في أهبتي، وحدثهم قليلا، ثم يئس القوم من موته، وأنشأ يقول:
كل عيشٍ وإن تطاول دهراً ... قصره مرةً إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما إن بدا لي ... في رؤوس الجبال أرعى الوعولا
اجعل الموت نصب عينيك واحذر ... غولة الدهر إن للدهر غولا
ثم قضى نحبه، ولم يؤمن بالنبي عليه السلام.
لما احتضر سيبويه، جعل رأسه في حجر أخيه، فقطرت قطرة من دموع أخيه على وجهه، فأفاق من غشيته، وقال:
أخيين كنا فرق الدهر بيننا ... إلى المنزل الأقصى ومن يأمن الدهرا
قال محمد بن إبراهيم الكاتب، دخلنا على أبي نواس نعوده في مرضه الذي مات فيه، ومعنا صالح بن علي الهاشمي، فقال له صالح: تب إلى الله يا أبا علي؛ فإنك في أول يوم من أيام الآخرة، وآخر يوم من أيام الدنيا، وبينك وبين الله هنات. فقال: أسندوني. فأسندوه، فقال: إياي تخوف الله؟ قد حدثني حماد بن سلمة، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي "، أتراني لا أكون منهم؟ وقد حدثني حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله، فإن حسن الظن بالله ثمن الجنة ". ورآه بعض إخوانه بعد موته بأيام في المنام فقال له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بأبيات قلتها، وهي الآن تحت وسادتي. فنظروا وإذا برقعة تحت وسادته في بيته فيها مكتوب:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فمن الذي يدعو إليه المجرم