وَمِثْلُهُ خَبَرُ: " «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا مَا أَوَى إِلَى اللَّهِ» "، يَعْنِي مَا كَانَ لِلَّهِ وَرَضِيَهُ.
(وَأَمَّا الْآخَرُ) - بِالْفَتْحِ - أَيِ الثَّانِي، (فَاسْتَحْيَا) أَيْ تَرَكَ الْمُزَاحَمَةَ كَمَا فَعَلَ رَفِيقُهُ حَيَاءًا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْ أَصْحَابِهِ، قَالَهُ عِيَاضٌ.
وَقَالَ الْحَافِظُ: أَيِ اسْتَحْيَا مِنَ الذَّهَابِ عَنِ الْمَجْلِسِ، كَمَا فَعَلَ الثَّالِثُ، فَقَدْ بَيَّنَ أَنَسٌ سَبَبَ اسْتِحْيَاءِ هَذَا الثَّانِي، فَلَفْظُهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ: وَمَضَى الثَّانِي قَلِيلًا، ثُمَّ جَاءَ فَجَلَسَ، (فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ) ، أَيْ رَحِمَهُ، وَلَمْ يُعَاقِبْهُ فَجَازَاهُ بِمِثْلِ فِعْلِهِ، وَهَذَا أَيْضًا مُشَاكَلَةٌ ; لِأَنَّ الْحَيَاءَ تَغَيُّرٌ وَانْكِسَارٌ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ مِنْ خَوْفِ مَا يُذَمُّ بِهِ، وَهَذَا مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ، فَهُوَ مَجَازٌ عَنْ تَرْكِ الْعِقَابِ مِنْ ذِكْرِ الْمَلْزُومِ، وَإِرَادَةِ اللَّازِمِ.
(وَأَمَّا الْآخَرُ) - بِالْفَتْحِ - أَيِ الثَّالِثُ، (فَأَعْرَضَ) عَنْ مَجْلِسِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، بَلْ وَلَّى مُدْبِرًا، (فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ) ، أَيْ جَازَاهُ بِأَنْ سَخِطَ عَلَيْهِ، وَهَذَا أَيْضًا مُشَاكَلَةٌ ; لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ هُوَ الِالْتِفَاتُ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى، وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ مَجَازٌ عَنِ السُّخْطِ وَالْغَضَبِ.
قَالَ الْحَافِظُ: وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ أَعْرَضَ لَا لِعُذْرٍ، هَذَا إِنْ كَانَ مُسْلِمًا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ وَأُطْلِعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَمْرِهِ، كَمَا يُحْتَمَلُ أَنْ قَوْلَهُ: " فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ " إِخْبَارٌ وَدُعَاءٌ.
وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ: " فَاسْتَغْنَى فَاسْتَغْنَى اللَّهُ عَنْهُ "، وَهَذَا يُرَشِّحُ أَنَّهُ خَبَرٌ.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ، إِذْ لَا يُعْرِضُ غَالِبًا عَنْ مَجْلِسِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا مُنَافِقٌ، بَلْ بَانَ لَنَا بِقَوْلِهِ: " فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ "، أَنَّهُ مُنَافِقٌ لِأَنَّهُ لَوْ أَعْرَضَ لِحَاجَةٍ، مَا قَالَ فِيهِ ذَلِكَ، وَفِيهِ جَوَازُ الْإِخْبَارِ عَنْ أَهْلِ الْمَعَاصِي وَأَحْوَالِهِمْ لِلزَّجْرِ عَنْهَا - وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعَدُّ غَيْبَةً -، مُلَازِمَةُ حَلَقِ الْعِلْمِ وَالذِّكْرِ، وَجُلُوسُ الْعَالِمِ وَالذَّاكِرِ فِي الْمَسْجِدِ، وَالثَّنَاءُ عَلَى الْمُسْتَحِي وَالْمُزَاحِمِ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ، وَاسْتِحْبَابُ الْأَدَبِ فِي الْمَجْلِسِ، وَفَضْلُ سَدِّ الْحَلْقَةِ، كَمَا وَرَدَ فِي التَّرْغِيبِ فِي سَدِّ خَلَلِ الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ، وَجَوَازُ التَّخَطِّي لِسَدِّ الْخَلَلِ مَا لَمْ يُؤْذِ، فَإِنْ خَشِيَ اسْتُحِبَّ الْجُلُوسُ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ كَمَا فَعَلَ الثَّانِي، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْعِلْمِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، وَفِي الصَّلَاةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، وَمُسْلِمٌ فِي الِاسْتِئْذَانِ عَنْ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ كُلُّهُمْ عَنْ مَالِكٍ بِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute