مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَّا أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْحَذِرِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ، وَلِئَلَّا يَقُولَ الْقَائِلُ: لَوْ لَمْ أَدْخُلْ لَمْ أَمْرَضْ وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ فُلَانٌ لَمْ يَمُتْ.
(وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ) لِئَلَّا يَكُونَ مُعَارَضَةً لِلْقَدَرِ، فَلَوْ خَرَجَ لِقَصْدِ الْفِرَارِ جَازَ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: الَّذِي يَتَرَجَّحُ عِنْدِي فِي النَّهْيِ عَنِ الْفِرَارِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْقُدُومِ أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَيْهِ تَعَرُّضٌ لِلْبَلَاءِ، وَلَعَلَّهُ لَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِ ضَرْبٌ مِنَ الدَّعْوَى لِمَقَامِ الصَّبْرِ أَوِ التَّوَكُّلِ فَمَنَعَ ذَلِكَ لِاغْتِرَارِ النَّفْسِ وَدَعْوَاهَا مَا لَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ عِنْدَ التَّحْقِيقِ، وَأَمَّا الْفِرَارُ فَقَدْ يَكُونُ دَاخِلًا فِي بَابِ التَّوَغُّلِ فِي الْأَسْبَابِ مُتَصَوِّرًا بِصُورَةِ مَنْ يُحَاوِلُ النَّجَاةَ مِمَّا قُدِّرَ عَلَيْهِ فَيَقَعُ التَّكَلُّفُ فِي الْقُدُومِ كَمَا يَقَعُ التَّكَلُّفُ فِي الْفِرَارِ فَأَمَرَ بِتَرْكِ التَّكَلُّفِ فِيهِمَا.
وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " «لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَإِذْ لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا» " فَأَمَرَهُمْ بِتَرْكِ التَّمَنِّي لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلْبَلَاءِ وَخَوْفِ الِاغْتِرَارِ بِالنَّفْسِ إِذْ لَا يُؤْمَنُ غَدْرُهَا عِنْدَ الْوُقُوعِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْوُقُوعِ تَسْلِيمًا لِأَمْرِ اللَّهِ.
(قَالَ) ابْنُ عَبَّاسٍ (فَحَمِدَ اللَّهَ) تَعَالَى (عُمَرُ) عَلَى مُوَافَقَةِ اجْتِهَادِ مُعْظَمِ الصَّحَابَةِ لِلْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ (ثُمَّ انْصَرَفَ) رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ اتِّبَاعًا لِلنَّصِّ النَّبَوِيِّ الْقَاطِعِ لِلنِّزَاعِ، وَبِهِ أَمَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ أَنْ يَرُدُّوا مَا تَنَازَعُوا فِيهِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمُ ذَلِكَ وَجَبَ الِانْقِيَادُ إِلَيْهِ.
وَفِي أَنَّ الْحَدِيثَ يُسَمَّى عِلْمًا لِقَوْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمٌ وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِنْصَافِ لِلْعِلْمِ وَالِانْقِيَادِ إِلَيْهِ، كَيْفَ لَا وَهُمْ خَيْرُ الْأُمَمِ، وَدَلِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ; لِأَنَّهُ كَانَ بِمَحْضَرِ جَمْعٍ عَظِيمٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يَقُولُوا لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنْتَ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا يَجِبُ قَبُولُ خَبَرِ الْكَافَّةِ. مَا أَضَلَّ مَنْ قَالَ بِهَذَا وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: ٦] [سُورَةُ الْحُجُرَاتِ: الْآيَةُ ٦] وَقُرِئَ " فَتَثَبَّتُوا " فَلَوْ كَانَ الْعَدْلُ إِذَا جَاءَ بِنَبَأٍ تَثَبَّتَ فِي خَبَرِهِ وَلَمْ يُنَفِّذْ لَاسْتَوَى مَعَ الْفَاسِقِ، وَهَذَا خِلَافُ الْقُرْآنِ {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: ٢٨] [سُورَةُ ص: الْآيَةُ ٢٨] ، قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ.
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الطِّبِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ وَمُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ مَالِكٍ بِهِ، وَتَابَعَهُ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ قَائِلًا نَحْوَ حَدِيثِ مَالِكٍ.
وَزَادَ مَعْمَرٌ قَالَ: وَقَالَ لَهُ أَيْضًا: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّهُ رَعَى الْجَدْبَةَ وَتَرَكَ الْخِصْبَةَ أَكُنْتَ مُعْجِزَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَسِرْ إِذًا، فَسَارَ حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ، فَقَالَ: هَذَا الْمَحَلُّ أَوْ هَذَا الْمَنْزِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute