فتضمن السُّورَة بَيَان مَا بعث بِهِ هَؤُلَاءِ الرُّسُل الَّذين أقسم بأماكنهم والاقسام بمواضع محنهم تَعْظِيم لَهُم فَإِن مَوضِع الانسان إِذا عظم لأَجله كَانَ هُوَ أَحَق التَّعْظِيم وَلِهَذَا يُقَال فِي الكاتبات إِلَى الْمجْلس وَالْمقر وَنَحْو ذَلِك السَّامِي والعالي وَيذكر بخضوع لَهُ وتعظيم وَالْمرَاد صَاحبه
فَلَمَّا قَالَ {فَمَا يكذبك بعد بِالدّينِ} دلّ على أَن مَا تقدم قد بَين فِيهِ مَا يمْنَع التَّكْذِيب بِالدّينِ
وَفِي قَوْله {يكذبك} قَولَانِ قيل هُوَ خطاب للْإنْسَان كَمَا قَالَ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَمُقَاتِل وَلم يذكر الْبَغَوِيّ غَيره قَالَ عِكْرِمَة يَقُول فَمَا يكذبك بعد بِهَذِهِ الْأَشْيَاء الَّتِي فعلت بك وَعَن مقَاتل فَمَا الَّذِي يجعلك مُكَذبا بالجزاء وَزعم أَنَّهَا نزلت فِي عَيَّاش بن أبي ربيعَة
وَالثَّانِي أَنه خطاب للرسول وَهَذَا أظهر فَإِن الانسان إِنَّمَا ذكر مخبرا عَنهُ لم يُخَاطب وَالرَّسُول هُوَ الَّذِي أنزل عَلَيْهِ الْقُرْآن وَالْخطاب فِي هَذِه السُّور لَهُ كَقَوْلِه {مَا وَدعك رَبك وَمَا قلى} وَقَوله {ألم نشرح لَك صدرك} وَقَوله {اقْرَأ باسم رَبك}
والانسان إِذا خُوطِبَ قيل لَهُ {يَا أَيهَا الْإِنْسَان مَا غَرَّك بِرَبِّك الْكَرِيم} {يَا أَيهَا الْإِنْسَان إِنَّك كَادِح إِلَى رَبك كدحا}
وَأَيْضًا فبتقدير أَن يكون خطابا للانسان يجب أَن يكون خطابا للْجِنْس كَقَوْلِه {يَا أَيهَا الْإِنْسَان إِنَّك كَادِح} وعَلى قَول هَؤُلَاءِ أَنما هُوَ خطاب للْكَافِرِ خَاصَّة المكذب بِالدّينِ
وَأَيْضًا فان قَوْله {يكذبك بعد بِالدّينِ} أَي يجعلك كَاذِبًا هَذَا هُوَ الْمَعْرُوف من لُغَة الْعَرَب فَإِن اسْتِعْمَال كذب غَيره أَي نسبه إِلَى الْكَذِب وَجعله كَاذِبًا مَشْهُور وَالْقُرْآن مَمْلُوء من هَذَا وَحَيْثُ ذكر الله تَكْذِيب المكذبين للرسل أَو التَّكْذِيب بِالْحَقِّ وَنَحْو ذَلِك فَهَذَا مُرَاده
لَكِن هَذِه الْآيَة فِيهَا غموض من جِهَة كَونه قَالَ {يكذبك بعد بِالدّينِ} فَذكر المكذب بِالدّينِ فَذكر المكذب والمكذب بِهِ جَمِيعًا وَهَذَا قَلِيل جَاءَ نَظِيره فِي قَوْله {فقد كذبوكم بِمَا تَقولُونَ} الْفرْقَان ٢٥ ١٩ فَأَما أَكثر الْمَوَاضِع فَإِنَّمَا يذكر أَحدهمَا اما المكذب كَقَوْلِه {كذبت قوم نوح الْمُرْسلين} وَأما المكذب بِهِ كَقَوْلِه {بل كذبُوا بالساعة} وَأما الْجمع بَين ذكر المكذب والمكذب بِهِ فقليل
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.app/page/contribute